كتبت ناتالي اقليموس في “الجمهورية”:
مَن لم يُقتَل تَهجّر، ومن لم يَتهجّر خسر أمواله وفقد ممتلكاته، واقعٌ يتعرض له مسيحيو الشرق الأوسط، لا يُحسدون عليه وهم الذين شكّلوا نواته منذ ألفي عام.
حيال الاستهداف الممنهج والهجرة الجماعية للمسيحيين لكأنّ الغاية إفراغ بلدانهم من وجودهم، كان البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي أوّل المحذّرين حين وصف ما آلوا اليه «بمثابة زلزال أصاب هذا الوجود المسيحي وحطم الاعتدال الإسلامي في بلدان الشرق الأوسط»، وذلك في محاضرة شهيرة ألقاها في روما عام 2016، بعنوان «قراءة واقع المسيحيين والكنائس عبر خمس سنوات من الثورات في الشرق الأوسط».
تجاه هذا الوضع المضطرب ونتيجة للظروف الأمنية، السياسية، الاقتصادية والمعيشية المحيطة بهم، التشبثُ بالأرض هو من أكبر التحدّيات القديمة – الجديدة، التي يواجهونها. وما يزيدهم حيرة وقلقاً نداءات كنيستهم المتكرّرة، وتمحوُر معظم عظات القداديس على بقاء المسيحيين حيث زُرعوا، فيسألون «كيف منصمد؟».
ملحُ الوجود
في هذا السياق، يؤكّد راعي أبرشية بعلبك ودير الأحمر المارونية المطران حنا رحمة لـ«الجمهورية» «أنّ المسيحي في هذا الشرق ليس مجرد عابر سبيل، إنما هو علامةٌ فارقة وملحُ الوجود، رغم كل ما رأيناه لا سيما في سوريا والعراق».
ويتوقف عند الواقع اللبناني، قائلاً: «ما اختبرناه في لبنان من ظروف في السنوات الماضية نموذج قد لا يشجّع على التمسك والتشبّث بالأرض، ولكن اليوم توصلنا إلى إقتناع تام، أننا إذا ظُلِمنا كمسيحيين في هذا الشرق، لا يجب أن نَظلُمَ الآخرين».
ويروي رحمة أنّ «ما شهده العالم من ظهور لـ«داعش» سبقه «دواعش» بأنواع وأشكال ومظاهر أخرى، حاولتِ اقتلاعَ المسيحيين من الشرق، وبقينا «حُصرم بعين الكل»، مشدّداً على أنّ «هجرة المسيحي من الشرق تضرّ بأخيه المسلم قبل المسيحي نفسه».
ولذا يدعو رحمة «المسلمين الى التمسّك بالمسيحيين قيمة أساسية في هذا الشرق». ويؤكّد أن «ليست الغاية «تعميد» (إعطاء سرّ المعمودية) المسلم في هذا الشرق، إنما العيش معاً معنى المحبة والشراكة والشهادة في الحضور، عندها يغتني المسلم والمسيحي على حدٍّ سواء، ويتسنّى لكل منهما القيام بفعل الخير والمحبة».
ويشير إلى أنّ «مساحات التلاقي والتحاور في القضايا المعيشية، الاجتماعية والاقتصادية أوسع من أيِّ اختلاف، فما يجمعنا أقوى ممّا يفرّقنا».
بين الدمار والإيمان
لا يدّعي رحمة أنّ دفاع الإنسان عن أخيه الإنسان ليس بالمسألة السهلة سواءٌ في لبنان أو المنطقة أو في العالم برمّته، قائلاً: «الحياة مليئة بالتحدّيات، وتعتصرها الأطماع خصوصاً في ظلّ ما يحوط بنا من ثورات متلاحقة وانغماسنا بما يحوط بنا من تكنولوجيات وتقنيات وتيارات، لذا آن الأوان لإعادة الله إلى مجتمعاتنا والعودة إلى الإيمان»، معتبراً أنّ «البشرية أمام مفترق طرقٍ ومحكٍّ جدّيٍ، إن لم يعد الناس إلى دينهم سيكونون أمام كارثة إنسانية تدميرية».
«وعلينا أن ندرك، كما يشدّد رحمة على أنّ «هذه العودة إلى الله لا يجب أن تكون سطحية أو عاطفية إنما مبنية على إقتناع وتنوّر وإيمان بالله».
على رغم من الهجرة التي شرذمت ألوف العائلات المسيحية في المنطقة وشتّتتهم، يقول رحمة: «كثيرون عملوا على هذا المخطط، وربما نجحوا في اقتلاعِ جزءٍ منا، ولكن لا خوفَ على المسيحيين طالما أنهم يعيشون إيمانهم مع الآخرين حيث يوجدون في أصقاع العالم، أنا لي ملء الثقة بهم وبالإنجازات التي يحققونها، ولكني أخشى عليهم فقط حين يغلبهم اليأس من مسيحيّتهم ويراهنون على أمور بعيدة عن إيمانهم تُدخلهم في متاهات الدنيا».
المسيحية «مش موضة»
إلى جانب أزمة الإيمان التي يحذّر رحمة من تداعياتها وأوّلها اليأس، يلفت إلى ما هو أخطر، وتحديداً «أزمة الأخلاق»، فيقول: «قبل أن يعاني لبنان من أزمة أمنية، سياسية أو اقتصادية، أزمتنا أخلاق في الأساس، لأن مَن يعرف الله في حياته من غير الممكن أن يُباع أو يُشترى، ومن غير الممكن أن يؤذي بلده أو يسرق شعبه».
ويضيف: «ندخل بعض الوزارات أحياناً ونشعر أننا دخلنا ملعباً لكرة القدم وأننا طابة يتمّ تقاذفُها من مكتب إلى آخر نتيجة غياب الضمير والأخلاق».
لذا يناشد رحمة القياديين عموماً والزعماء المسيحيين والمسؤولين خصوصاً بالتحلّي بالأخلاق المسيحية، قائلاً: «على كل مسيحيٍّ مسؤول سواءٌ كان مديراً أو نائباً أو وزيراً أن ينطلق بعمله من إيمانه المسيحي ليكون صالحاً أمام الشعب كله ومحيطه وليس فقط مع الجماعة التي يمثلها، فالمسيحية ليست «موضة» إنما نمط عيش وأسلوب صادق في التعاطي من منطلق «الله يراني» والسهر والتفاني في العمل».
لتحصين المصالحات
ويعتبر رحمة أنّ الميلاد فرصة لتحصين المصالحات المسيحية، قائلاً: «المصالحات المسيحية انطلاقة جيدة لا بد من تحصينها وتعزيزها، بصرف النظر عمّا يمكن أن تتعرّض له من تحدّيات بحكم المنافسة السياسية، فالمصالحة تعزّز الصف المسيحي. وتحوطه بأمان وبمعنويات».
ولا ينكر أنّ بعض تلك المصالحات قد يهتز فيقول: «لا شك أنّ الانتخابات نقضت بجزء من هذه المصالحات بحكم ما تفرضه من تنافس، ولكن «مش مشكلة»، المهم أن نمضي قدماً، والمصالحة الاخيرة التي حضنتها بكركي بين «القوات اللبنانية» وتيار «المردة» هي أهم المصالحات نظراً للتلاحم الجغرافي والجرح العميق الذي كان قد نتج منها».
ويأسف رحمة لمساعي بعض السياسيين الى تبنّي نهج «خاصم لتوجد نفسك»، لا يمكننا الاستمرار والحفاظ على وجودنا في الخصام واعتماد سياسة «فرّق تَسُدْ» لنوسّع شعبيتنا وحيثيتنا، نكسب جمهورنا ومحبتنا من خلال شعورنا بوجع الآخرين والتهافت على خدمة المواطنين، عندها يكون الزعيم المسيحي صالحاً وقائداً، فالشعبية لا تُبنى على شتم الآخرين».
وعلى رغم من تفاؤله، فإن في قلبِ رحمة غصّةٌ على الشباب، «ما من ظرف أبشع من أن يغادر المرءُ وطنه لأنه ليس محسوباً على أيِّ فريقٍ سياسيّ أو طرفٍ حزبيّ»، لذا أمل في أن يحمل زمنُ الميلاد الخلاص للبنان ومع تشكيل الحكومة فرصة لإعادة النظر في السياسة المعتمدة وإحتضان الشباب وتوفير كل ما يلزم لهم لأنهم عصب البلاد واستثمارها الرابح.