كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:
«الإجراءات غير الشعبية» عنوان «وصفة» قوى السلطة للشروع بعملية تصحيح مالي تُحمَّل كلفتها لموظفي القطاعين العام والخاص، في مقابل إعفاء أصحاب الرساميل منها. التنفيذ يجري بواسطة التهويل: الفوضى في حال الانهيار المالي، أو استباق الانهيار بإجراءات «موجعة»، أبرزها مصادرة جزء من رواتب القطاع العام لتخفيف عجز الخزينة ومنع أي زيادة في رواتب أجراء القطاع الخاص، ثم رفع تعرفة الكهرباء. إنها العودة إلى «أدوات» فؤاد السنيورة!
تتقاطع المعطيات حول وجود اتفاق غير معلن بين بعض قوى السلطة على ضرورة القيام بـ«إجراءات غير شعبية» من أجل معالجة الأزمة الاقتصادية التي يشهدها لبنان. وصف هذه الإجراءات بأنها غير شعبية، هو إشارة إلى أنها ستمسّ حصراً بذوي الدخل المحدود والطبقة الوسطى، أي الطبقات الأقل استفادة من النموذج الاقتصادي المعتمد في البلاد منذ عقود. هي وصفة صندوق النقد الدولي في كل الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية، ويروّج لها رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة على أنها «قرارات شجاعة»، في مقدّمها خفض الرواتب والأجور في القطاع العام، كمدخل لعلاج العجز المتنامي في المالية العامة، بالتزامن مع رفع تعرفة أسعار مبيع الكهرباء للعموم.
في نهاية تشرين الثاني الماضي طرح الوزير جبران باسيل رؤيته لمعالجة «الانحدار الاقتصادي» بالاستفادة من تجربة صربيا التي خفضت الرواتب في القطاع العام مقابل «ترف لبنان القيام بعكس ذلك». بحسب المعطيات المتداولة، فإن كلام باسيل هو حاصل لقاءات أجراها خلال الأشهر الماضية مع مجموعة من رجال الأعمال وأصحاب الرساميل تحت عنوان البحث عن مخارج للأزمة الاقتصادية – المالية في لبنان. وهؤلاء يصنّفون سلسلة الرتب والرواتب السبب الرئيسي للأزمة الحالية.
ولا يخفي رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري رأياً مماثلاً أيضاً، بل هو يترك التعبير عن الموقف لمن اختار تمثيله في وزارة الاتصالات، رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان، محمد شقير، ولممثلة التيار في المجلس الاقتصادي والاجتماعي ريّا الحسن. الأول طالب بوضوح وعلناً أكثر من مرّة بتجميد دفع السلسلة لمدة ثلاث سنوات بذريعة «تجنّب الانهيار النقدي». والحسن أصرّت على هذا الأمر في المجلس الاقتصادي عندما دُعي ممثلو الأحزاب إلى لقاء لمناقشة الأزمة المالية وسبل معالجتها. يومها شددت الحسن على وجود خطأ ارتكبته قوى السلطة بمنح موظفي القطاع العام سلسلة الرتب والرواتب.
والحريري لا يخفي رأيه في ما يتعلق بدعم الكهرباء، بل ينسجم مع ما سوّقه وزراء التيار الوطني في الحكومة عن ضرورة رفع التعرفة. فهو قال منذ بضعة أيام في مؤتمر اقتصادي، إنه يجب خفض الدعم عن الطاقة الكهربائية بقيمة 600 مليون دولار. هذا المطلب لا يمكن أن يترجم إلا بطريقة من اثنين: رفع تعرفة أسعار الكهرباء، أو خفض استيراد الفيول أويل المخصص لمعامل إنتاج الكهرباء، وبالتالي زيادة ساعات التقنين.
في الواقع، إن مسألة خفض الدعم عن الطاقة الكهربائية كان مطروحاً على طاولة اللقاء بين ممثلي الأحزاب في المجلس الاقتصادي الاجتماعي، وأصرّ بعض ممثلي الأحزاب على خفض الدعم إلى صفر خلال ثلاث سنوات، أي بما ينسجم تماماً مع طرح الحريري. وبحسب مصادر معنية، فإنه إلى جانب المستقبل، تصرّ القوات على رفع تعرفة الكهرباء انطلاقاً من ضرورة خفض العجز واللجوء إلى معالجات مختلفة لزيادة إنتاج الكهرباء مثل إنشاء معامل إنتاج كهرباء على الطاقة الشمسية بقدرة 2000 ميغاوات في منطقة طفيل عند الحدود اللبنانية – السورية.
السنيورة كان له رأي مماثل قبل أيام، حين تحدّث عن «قرارات شجاعة»، وتحدّث عن خصخصة الكهرباء بإسهاب، مشيراً إلى الفروقات بين ما يقوله ممثلو الأحزاب وما يفعله القادة.
هذه مجرّد عيّنة عن «الإجراءات غير الشعبية» التي تطالب بها بعض قوى السلطة. ثمة من يرى أنه يجب العودة إلى طرح رفع ضريبة القيمة المضافة، وهناك من يعتقد أنه يجب زيادة الإعفاءات الضريبية لأصحاب رؤوس الأموال من أجل جذب التدفقات المالية بالدولار من الخارج… الكثير من الإجراءات غير الشعبية التي تطرح بهدف إعفاء الشرائح التي راكمت الثروات واقتطاع كلفة التصحيح من جيوب الشرائح الفقيرة والمتوسطة دوناً عن سواها. خفض الرواتب والأجور في القطاع العام يصيب الموظفين حصراً، ورفع تعرفة الكهرباء يصيب صغار المستهلكين الذين يعدّون أقل المستفيدين من دعم الكهرباء، ومنع زيادة غلاء المعيشة عن موظفي القطاع الخاص يصيب معيشة هؤلاء فقط. من يطرح هذه المعالجات، يسعَ إلى إنعاش النموذج الاقتصادي اللبناني الذي لم يعد قادراً على جذب التدفقات من الخارج، متجاهلاً أن المشكلة في النموذج نفسه. كذلك فإن طرح تجميد سلسلة الرتب والرواتب أو خفضها، ورفع تعرفة الكهرباء، ينطلق من كون الأموال التي سيحصل عليها لبنان من مؤتمر «سيدر» تشكّل الجزء الثاني من العلاج لأزمة هذا النموذج، فيما في الواقع لا تشكّل هذه الأموال علاجاً، بل هي ستدخل على أنها استثمارات تموّل استهلاك مستورد، أي أنها ستفاقم مشكلة الطلب على الدولار وتباطؤ التدفقات بالعملات الأجنبية التي يعاني منها النموذج.
إذاً، هل يمكن أن تتحمّل القوى السياسية التي تسوّق لما يسمى «إجراءات غير شعبية»، كلفة تنفيذ هذه الإجراءات؟ هل بإمكان هذه القوى التوافق على تنفيذ هذه الإجراءات مع القوى التي ترفضها أو التي لا تتحمّل كلفتها شعبياً؟ فعلى سبيل المثال، هل يتحمّل الرئيس نبيه برّي مثل هذا الطرح؟ وهل بإمكان سعد الحريري الذي لجأ إلى التوظيف في القطاع العام بديلاً من استخدام المال السعودي لتمويل عمله السياسي؟
مَنْ من القوى السياسية يتحمّل كلفة خفض سلسلة الرتب والرواتب أو تجميدها؟
في الواقع، يجري التسويق لهذه الإجراءات على أنها تقع في مندرجات مؤتمر «سيدر»، رغم أن التزامات لبنان لم تتطرق إلى هذه التفاصيل، بل تحدثّت عن «وصفة عمومية لخفض العجز»، على حدّ تعبير الوزير السابق شربل نحاس.
والمشكلة أنه بالتزامن مع هذه الطروحات، راجت شائعات عن احتمال اندلاع أحداث خطيرة اقتصادية وأمنية وسياسية، ولا سيما بعدما تعطّل تأليف الحكومة. هذا الأمر يضع المسألة أمام مستوى مختلف، إذ إن موافقة القوى السياسية على تنفيذ هذه الإجراءات يتطلب أن تكون هناك ظروف ملائمة تسمح لها بالتنصل من الكلفة أمام المستفيدين، أي أن الأمر يتطلب أجواءً مشحونة وتهويل بالانهيار… هنا يظهر القلق من أن تسعى هذه القوى لتسعير المشاكل المالية والاجتماعية والأمنية من أجل الشروع بمخططها.
في كل الأحوال، إن اللجوء إلى خفض رواتب القطاع العام ورفع أسعار الكهرباء، وأي إجراءات مماثلة، ليس سوى مقدّمة لإعفاء أصحاب الرساميل من المشاركة في كلفة التصحيح المالي. فلماذا لا تدفع المصارف، وهي التي راكمت ثروات طائلة من خدمة الدين العام، الجزء الأكبر من كلفة التصحيح المالي؟ ولماذا يكون الموظفون في القطاع العام أول المسدّدين لهذه الفاتورة؟ وهل سيتمكن موظفو القطاع الخاص من الحصول على زيادة غلاء معيشة في ظل هذه المشاريع؟
هذا التصوّر هو عكس ما يطرحه الوزير السابق شربل نحاس عن التصحيح الطوعي والتوزيع العادل للأعباء. طرح نحاس، يهدف إلى عدم الذهاب في اتجاه الرواتب والأجور، بل هو يقترح حلّاً شاملاً تكون فيه الأعباء موزّعة على القطاعات والأطراف كلّ بحسب قدرته على المساهمة.
وهذا الحلّ هو الذي يؤيّده حزب الله الذي يدعو إلى التعامل مع خدمة الدين العام على أنها صفر لمدّة خمس سنوات، أي أن المصارف يجب عليها أن تدفع كلفة خدمة الدين العام من أرباحها ورؤوس أموالها خلال هذه الفترة، بما يوفّر فرصة للتصحيح.