كتبت البروفسور غريتا صعب في جريدة “الجمهورية”:
حذّر صندوق النقد الدولي من أنّ الاقتصاد العالمي يواجه خطر انهيار مالي كبير في ظل فشل الحكومات والمنظمات السير بالإصلاحات لحماية النظام المالي والمصرفي.
تمّ انجاز الكثير من الاحتياطات المصرفية خلال السنوات العشر الأخيرة لوضع رقابة صارمة على القطاع المالي، ولكن يبدو أنّ المؤشرات غير مطمئنة في ظل مخاطر كبيرة يواجهها العالم اليوم قد يكون اهمها نسبة الديون المرتفعة، والتي تُعتبر اعلى مستوى للديون منذ الأزمة المالية العالمية في العام 2008.
يشير صندوق النقد الدولي الى زيادات هائلة في عمليات الإقراض التي يقوم بها ما يسمّى shadow banks في الصين، وعدم فرض قيود صارمة على شركات التأمين ومديري الاصول التي تتعامل مع تريليونات الدولارات من الاموال، الأمر الذي يزيد القلق. وجاءت تحذيرات صندوق النقد الدولي على استقرار النظام المالي العالمي مع جملة نكسات للاتفاقات الدولية، سيما مع إدارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب، والتي قوّضت جهوداً مضنية توصلت اليها الدول لغاية الآن.
في تصريحات أدلت بها في تشرين الاول الماضي، حذّرت كريستين لاغارد من تنامي إجمالي الديون في كل من القطاعين العام والخاص، منذ الأزمة المالية، والذي بلغ 182 تريليون دولار، الامر الذي يضع الدول الناشئة او الشركات امام تحدي زيادة اسعار الفوائد الاميركية، وما قد يؤدي الى هروب الاموال منها وزعزعة اقتصادها. لذلك، قد تكون احدى النقاط الأساسية هي الديون وارتفاع اسعار الفوائد، الّا انّ هناك عوامل أخرى تجعل من الاقتصاد العالمي في خطر. وهناك تهديد للنمو اقلّه في العام المقبل، وقد يكون اهم هذه العوامل الحروب التجارية وصعود الصين كقوة عالمية. وستؤدي تهديدات ترامب بفرض الرسوم على جميع الواردات من الصين، الى ضرب الناتج المحلي الاجمالي الصيني بما قدره 1.5 نقطة مئوية.
الامر الثاني والمهم، والذي يهدّد مصير الاتحاد الاوروبي، ما يحدث حالياً في ايطاليا مع الحكومة الشعبية حول موجة الإنفاق، الامر الذي أزعج المستثمرين والاتحاد الاوروبي. لذلك قد يكون العام المقبل مصيرياً، ليس فقط على ايطاليا بل أيضاً على قدرة الاتحاد الاوروبي في فرض انضباط الميزانية على الدول الاعضاء.
وحسب المفوضية الأوروبية في تقريرها السنوي لمنطقة اليورو، فانّ خطة الإنفاق في الميزانية الايطالية «بالغة الخطورة». كذلك مسار خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي وعدم التعامل يعني انّ الناتج المحلي الاجمالي للمملكة قد يكون أقل بحوالى 7 بالمائة بحلول العام 2030 مقارنة بحالة بقائها.
عالمياً، قد لا تكون الامور اهون من اوروبا، وفي ظل التوتر داخل اوبك للنفط، ولا سيما وان اي تصعيد قد يسبب انخفاض اسعار واسعة النطاق، بالاضافة الى تصاعد التوترات بين ايران والسعودية، الامر الذي قد يشل اسواق الطاقة العالمية وهو امر خطير بالنسبة للدول المصدّرة والمستوردة للنفط.
هذا الوضع قد يؤدي الى صراع اوسع في منطقة الخليج، واحتمال شن حرب بين ايران والسعودية واغلاق مضيق هرمز وشل اسواق الطاقة، ولا سيما وانّ اي انقطاع للإمدادات من الخليج تُترجم بسرعة ارتفاعاً في الاسعار وبالتالي ضرب آفاق النمو في الاقتصاد العالمي.
قد تكون المخاطر هي المفهوم المناسب، لاسيما وانّ الاقتصاد بالغ التقييد سواء على صعيد المحلي او الدولي، ولا يمكن لأحد ان يتنبأ تماماً ما الذي سيحدث. واولئك الذين يعتقدون انّ باستطاعتهم فعل ذلك هم على خطأ، وعلينا ان نتعاطى مع العملية على أساس ارتفاع او تراجع المخاطر. وتُعتبر الحروب التجارية مع الصين وقطع صادراتها ضربة للاقتصاد، وكذلك خفض الواردات من الصين سوف ترفع اسعار المستهلك وتخلق نزاعاً تجارياً سينعكس عالمياً وليس فقط على الولايات المتحدة.
المشهد العالمي لا يقلّ تعقيداً عمّا سبق وأدرجناه من مخاطر وإمكانية ارتفاعها، وانتخابات العام المقبل في العديد من الاقتصادات الرئيسة الناشئة، وقد تكون لها آثار بعيدة المدى على مواقفها السياسية واستقرار السوق ونشؤ الاحتمالات المتطرّفة في العديد منها والبرازيل واحدة منها. كذلك فانّ ارتفاع اسعار الفوائد من قبل الفدرالي الاميركي يزيد الضغوط على الدول الناشئة ويؤدي الى هروب الاموال وزعزعة استقرار اقتصاداتها.
في تحليل منفصل، وفي اطار التوقعات الاقتصادية السنوية لصندوق النقد الدولي، حذّر الصندوق من «تحدّيات كبيرة تلوح في الافق ويجب العمل لمنع انهيار ثانً» والارتفاع في الاقتراض من قبل الشركات والحكومات بأسعار فوائد رخيصة لم يظهر او ينعكس جدياً في مجالات البحث والتطوير او الاستثمار في الهياكل الأساسية.
المشهد العالمي يبدو لغاية الآن متشابكاً في ظل تجاذبات دولية ومع سياسات ترامب غير متوازنة وعدائية، ورفضه لجميع ما توصلت اليه الدول من معاهدات تجارية ومناخية ودفاعية. والوضع في منطقه الشرق الاوسط يلقى العديد من التجاذبات مع مجموعات تراهن على النفوذ الاميركي في المنطقة واخرى تراهن على تراجعه.
والجدير بالذكر أنّ الوجود الاميركي قائم ليبقى، ويجب التعامل معه بكثير من الجدّية والاهتمام والدبلوماسية لا سيما ونحن في خضم ازمات وحروب كبيرة، ابتداءً من سوريا وانتهاءً باليمن ومروراً بغزة. ولا يمكن بالفعل إنكار دور ايران في المنطقة وهو دور حيوي، لا سيما وانّها من اكبر المصدّرين للبترول وتعوّل عليها العديد من الدول الأوروبية والآسيوية، واي مخاطر تهدّد إيران ستنعكس سلباً على النمو الاقتصادي لهذه الدول.
قد تكون العقوبات الموجّهة ضد إيران هي رسالة الى الصين والهند وغيرها من الدول التي تستورد النفط الايراني. وسياسة العقوبات هذه جاءت لتزيد من مخاطر التدهور الاقتصادي وتراجع النمو في العديد من الدول.
وقد تكون اهم المخاطر سياسة ترامب وعدم استطاعة المحللين التنبؤ بها وما تشكّله من ضرر، الا انّ سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب تساعد في التخفيف من خططه وعدائيتها على الاقتصاد العالمي والاميركي الشمالي بشكل خاص.
لذلك تبدو السنة 2019 فيها الكثير من المخاطر السياسية والاقتصادية معاً وتهدّد بحروب تجارية تعرقل النمو وتخفف من اندفاعه. كل ذلك في ظل تباطؤ عالمي وتراجع في النمو، ومع استحقاقات أوروبية اصبحت مكلفة ان كانت الـbrexit او ايطاليا وخطط انفاقها او الشرق الأوسط ونفطه.
يبدو للعيان انّ ترامب مستعد لكل شيء لتبقى اسعار البترول ضمن الحدود المطلوبة لا سيما وانه يركّز على المملكة السعودية وعلاقته معها، مهدّداً انّ اي خلاف معها قد يرفع اسعار البترول إلى السقوف لم نرها من قبل.
لذلك، نرى أنّ العملية الاقتصادية متشعبة الأبعاد، منها السياسي ومنها المالي والنقدي ومنها التجاري. والتناقضات العالمية تبدو مضرّة بالاقتصاد العالمي ونموه وتهدّد بركود قد نشهده في السنوات القليلة المقبلة.