كتب علي حشيشو في “الاخبار”:
بعدما صار المرحاض جزءاً من المنزل، تحولت الحمّامات في صيدا القديمة، بقبابها المرصّعة بالزجاج الملوّن، إلى معالم تراثية تستقطب قلة من المستحمين وكثيراً من السياح.
منذ أكثر من ثلاثة قرون (1133هجرية)، يتوسط «حمام الورد» أحياء صيدا القديمة. مدخنته الطوبية المنتصبة وقبابه المحدّبة المشكوكة بالزجاج الملون تهديان السائل إلى الطريق. على رغم ذلك، ليس «حمام الورد» أقدم الحمامات الأثرية السبعة التي كانت تزنّر صيدا حين كانت المدينة جزءاً من الدولة العثمانية وتتأثر بثقافتها وعاداتها.
بحسب الباحث في علم الآثار والمتخصص في ترميم الأبنية التراثية عمر حيدر، تعود فكرة حمامات الأحياء الشعبية «إلى زمن الرومان. لكن العثمانيين بدأوا بتشييدها في القرن السادس عشر وفق فلسفة خاصة بالبناء. أرادوا إنزال السماء إلى الأرض من القبب لإشراكها في كل مناحي الحياة، ما جعل الحمامات تحفاً هندسية اعتمدوا فيها المُقَرْنصات للانتقال بالبناء من شكله التحتي المربع إلى الأعلى الدائري الذي ينتهي بالقباب. كما اعتمدوا نظام إضاءة طبيعياً، إذ ينسلُّ نور الشمس عبر فتحات زجاجية ملونة في أعلى القباب».
آلية عمل الحمام اعتمدت، بشكل أساسي، على «الأمّيم». وهو «أتون النار الذي كان يبنى جانباً ويوقد فيه الحطب والسماد الحيواني. الدخان الساخن الذي ينبعث من الأتون يمر تحت غرف الحمام فيعطيها سخونة قبل أن يخرج من مدخنة مرتفعة، فيما تغلي المياه في خلقينة ضخمة تفيض مياهها وتجري عبر قنوات حجرية إلى غرف الاستحمام التي كانت تسمى الجوّاني، وهو الأسخن، والوسطاني وهو الأقل سخونة». وعدا عن كونه للاستحمام، كان الحمام أيضاً مقصداً لأصحاب أوجاع الظَّهْر للتمدد على بلاط النار أو الغوص في مغطس المياه المغلية.
عدم توافر المياه في البيوت، جعل حمام السوق حاجة للسكان. يقصده الرجال مساء، فيما تقصده النسوة مع أطفالهن (الذكور دون السابعة) نهاراً. على الأرض، كن يفرشن سفراتهن المنزلية ويتناولن فطورهن جماعياً في ديوان الحمام قبل الاستحمام الذي غالباً ما كانت تليه فترة لهوٍ وتبادل الأغاني والفوازير. «كنت صغيراً أحمل البقجة (قطعة قماش تُجمع بداخلها الثياب والمناشف). أما الطعام فغالباً ما يكون مجدرة أو أرز بفول ومخلل اللفت، كنا نلفه بصُرّة وندخل الحمام مع والدتي وأخواتي في الدوام المخصص للنساء». يكمل حسن بديع (83 عاماً): «لا زلت أذكر أنني كنت أتوه بين أجساد النسوة المتفرّعات في الحمام، وأصرخ من شدة الوجع عندما كانت أمي تنظفني بالليفة الخشنة، لكني كنت أخرج من الحمام نظيفاً برّاقاً مثل الوردة»!.
كان حمام السوق حيزاً اجتماعياً. ففيه تقام «الاحتفالات لنِفاس المرأة (ما بعد الولادة). إذ تقوم الداية بتنفيس المرأة ودهنها بالمراهم العربية، وكنا نحتفل بذلك بإضاءة الشموع وتوزيع الحلوى والنعّومة»، وفق الحاجة نوال عواضة. كما كانت النسوة تقصدنه «لاختيار عرائس لأبنائهن ومعاينتهن عن كثب، وبالطبع كن يفضلن العرائس الممتلئات وذوات الجسد الأبيض، حتى إذا ما عثرن على واحدة بتلك المواصفات أخذن موعداً من أهلها لطلب يدها. واحتفالاً بالعروس كنا نُحَنّي شعورنا وأيدينا وأرجلنا ونجري بروفة زفة العروس في باحة الحمام ونرشها بماء الورد والعطورات».
وللرجال أيضاً كانت طقوس لهو في الحمام الذي كان يعجّ بهم، خصوصاً ليلة الجمعة. «كنا نحوله إلى مسبح نتقاذف المياه الساخنة بالجنطاس (وعاء نحاسي لسكب المياه) ونقيم حلبات الكباش والمصارعة ونتبارز في الاستلقاء على بلاط النار» يقول مصطفى البيلاني. فيما يتذكر صلاح الشيخة الذي أمضى 30 عاماً في العمل بتكييس (تلييف) الرجال وتنقل بين معظم الحمامات «ليلة تغسيل العريس، إذ كان يتقاطر محبوه لتحميمه وتجهيزه ويغنون له رديات توديع العزوبية».