كتب شارل جبور في صحيفة “الجمهورية”:
حركة المدّ والجزر التي تشهدها البحارُ بفعل العوامل الطبيعية هي نفسها تنسحب على الحركة البشرية مع فارق العوامل الذاتية والإرادية والظروف الموضوعية الخارجة عن إرادة الناس وقدرتها على ضبط حركيّتها على إيقاع التطورات المحيطة بها.
يمكن توصيف سنة 2018 بالنسبة إلى «القوات اللبنانية» بسنة المدّ بامتياز، فقانون الانتخاب الذي عملت عليه طويلاً واعتبرته جزءاً لا يتجزّأ من البنيان الميثاقي للبنان القائم على التمثيل الصحيح لكل المجموعات اللبنانية الطائفية والسياسية، تمّ إقراره وإجراء الانتخابات على أساسه، فأنتج التمثيل الذي تمّ تغييبه منذ الانقلاب على اتفاق الطائف في العام 1990.
فهدف أيّ حزب سياسي الوصول إلى السلطة، ليس حباً بالسلطة، أو هكذا يفترض، بل من أجل تحقيق مشروعه السياسي ديموقراطياً، وقد أظهرت الانتخابات النيابية الأخيرة الحجم الحقيقي لـ»القوات» على مستويي الكتلة النيابية (15 نائباً) والأصوات التفضيلية التي نالتها وبيّنت أنّ الحضور القواتي هو على امتداد الجغرافيا اللبنانية، خصوصاً انها خاضت الانتخابات من دون تحالفات سياسية تقريباً، وبلوائح متجانسة، وكان بإمكانها مع بعض التحالفات رفع عدد نوابها إلى ما يزيد عن 20 نائباً.
فسنة 2018 أظهرت انّ «القوات» من الكتل الكبرى نيابياً، ومن القوى الأساسية شعبياً، ومن الأرقام الصعبة وطنياً، وبما انّ الانتخابات ليست معزولة عن سياق الأحداث الوطنية، فإنّ نتائجها تفرض إيقاعها على كل المشهد السياسي وتساهم في تغيير النظرة إلى «القوات»، نظرة القوى السياسية إليها من الحلفاء إلى الخصوم، فهي ليست قنبلة صوتية، بل قوة فعلية تعكس بالتمام تطلعات شريحة واسعة من اللبنانيين لا يمكن تجاوزها بسهولة، وهذا ما حال دون إحراجها لإخراجها من الحكومة العتيدة.
وفي موازاة الانتخابات النيابية يمكن التوقف أمام ثلاث محطات طبعت بدورها سنة 2018 قواتياً:
المحطة الأولى تتعلّق بالمواجهة التي خاضتها من أجل ان تتمثّل في الحكومة بوزنها النيابي والشعبي والسياسي، والهدف منها كان إما إدخال «القوات» إلى الحكومة بثلاثة وزراء او إخراجها منها، وهذه أوّل مواجهة من نوعها تكون «القوات» محورها منذ العام ٢٠٠٥، حيث كانت تتألف الحكومات من دون التوقف كثيراً أمام التمثيل القواتي، الأمر الذي تبدّل بفعل ثلاثة عوامل: حجمها النيابي، غياب البدائل الوازنة، والتوازن الوطني داخل الحكومة كون تغييبها سيغلِّب اللّون الواحد.
المحطة الثانية سقوط الشق السياسي من تفاهم معراب بين «القوات اللبنانية» و»التيار الحر»، وهذا السقوط تدرّج بين ثلاث مراحل: المرحلة الأولى بدأت مع الخلاف داخل الحكومة في النظرة إلى إدارة بناء الدولة وتظهّرت بشكل أساسي في ملف بواخر الكهرباء، فيما «القوات» تعتقد صدقاً انّ تمسكها بالدستور والقوانين المرعيّة تصبّ في خدمة العهد، لأنّ الناس وصلت إلى حدّ القرف والإحباط من الاستهتار المتمادي بأولوياتها البديهية.
المرحلة الثانية بدأت قبل ثلاثة أيام من موعد الانتخابات النيابية في هجوم مركّز ومفاجئ شنّه الوزير جبران باسيل ضد «القوات» والهدف منه توجيه رسالة إلى المسيحيين بعدم الاقتراع لها اعتقاداً منه أنّ الرأي العام المسيحي يصوِّت لمصلحة «القوات» بفعل علاقتها مع «التيار الحر»، ويصوِّت ضدها في حال انفراط هذه العلاقة، فيما الاقتراع لـ»القوات» له علاقة بجانب أوحد وهو التراكم النضالي الذي أظهر للناس انّ هذا الحزب منسجم مع نفسه وأفكاره وأقواله لا تختلف عن ممارسته وان همّه تحقيق ثلاثية أهدافه: دولة سيدة على أرضها، وميثاقية في تكوينها، وشفافة في إدارتها.
المرحلة الثالثة إبان تشكيل الحكومة والمحاولات الحثيثة لتحجيمها او إخراجها، ويسجّل للرئيس سعد الحريري وقوفه إلى جانب «القوات» في هذا الاستحقاق.
وما تقدّم من مراحل لا يعني العودة بالعلاقة إلى ما كانت عليه قبل المصالحة التي أثبتت بأنها محصّنة بإرادة المجتمع الذي لا يريد العودة إلى النغمة الخلافية السابقة.
المحطة الثالثة المصالحة بين «القوات» و»المردة» التي أقفلت آخر ملف نزاعي ينتمي إلى الحرب اللبنانية داخل البيئة المسيحية، وعلى رغم أهمية الجانب الوجداني لهذه المصالحة الذي شكل الهدف الأول للطرفين بحرصهما على طيّ صفحة الماضي وترشيد العمل والخلاف السياسيين، إلّا انه لا يمكن التقليل من أهمية الجانب السياسي الذي فتح الطريق بين معراب وبنشعي التي باتت سالكة بالاتجاهين، أي فتح باب الاحتمالات التي كانت مقفلة قبل المصالحة، وهذا التطور كان كفيلاً بتوجيه أكثر من رسالة في أكثر من اتجاه.
وفي موازاة هذه المحطات لا يجب التقليل من عامل الإدارة السياسية القواتية في اليوميات وفي علاقاتها مع القوى السياسية، فنجحت في تحييد العهد عن المواجهة مع باسيل والتي أبقتها ضمن سقوف وحدود معينة، وحافظت على علاقتها المتينة مع «المستقبل» و»الإشتراكي»، ورفعت من منسوب علاقتها مع الرئيس نبيه بري، وتعاملت بالمثل مع «حزب الله» في إطار التبريد السياسي، وانفتحت على كل القوى السياسية وفق الحاجة الوطنية.
فبهذا المعنى لم تكن سنة 2018 بالنسبة إلى «القوات» مواصلة المزيد من الشيء نفسه فقط، بل نجحت في تحقيق نتيجة انتخابية بغاية الأهمية في مدلولاتها وانعكاسها على كل المشهد السياسي، وأظهرت امتلاكها للمبادرة السياسية من خلال مصالحة بكركي وغيرها، وقدرتها على الموازنة الدقيقة بين البراغماتية والمبدئية السياسية وفي علاقاتها السياسية، ولهذا كله يمكن القول إنّ سنة 2018 كانت سنة «القوات» بامتياز.