كتب نبيل هيثم في صحيفة “الجمهورية”:
لبنان منهمك في البحث عن حكومة ضائعة، وليس أكيداً أنه سيجدها في المدى المنظور. وما يثير السخرية هو الأسطوانة التي يُعاد تكرارُها على مدار الساعة ولم تمل بعد من القول «على الفاضي وعلى المليان» بأنّ الولادة وشيكة!
ما يثير السخرية ايضاً، انها مستعصية، على رغم «نبع الأفكار» المتفجر من بعض جوانب أزمة التأليف، والتي بدت كلها لا تعدو سوى فكرة وحيدة يجري تقديمها بصياغات مختلفة، على متن مبادرات رئاسية، أو حراك وسطاء، أو أصدقاء مشتركين أو سعاة خير، إلّا أنّ المضمون واحدٌ يبدأ وينتهي عند هدف وحيد هو إبقاء الثلث المعطّل في الحكومة في يد جبران باسيل.
حتى الآن، لم يُكتب لأيٍّ من هذه الأفكار، أو بالأحرى لم يُكتب لهذه الفكرة الوحيدة، الحظّ في أن تعبر إلى التطبيق، طار جواد عدرا ويجري البحث عن جواد آخر لامتطائه، ولم يُعثر عليه بعد، فيما الوقت يمر، وعمر تعطيل الحكومة يزحف نحو الشهر التاسع، والبلد يختنق، و«سيدر» يحتضر، والازمات تتعمق اكثر، والاحتجاجات تطرق الابواب، وها هي القمة الاقتصادية التي أُريد لها أن تشكّلَ فرصةً معنوية وحائط دعم لبلد اعرج فاقد لقدرة إدارة نفسه وعاجز على بناء سلطته التنفيذية، توشك، أي القمة، أن تنخفض إلى مستوى «هضبة»، لا تُغني ولا تسمن من جوع؛ كل ذلك من أجل وزير!
ثمانية اشهر، والسؤال نفسه يتكرّر: مَن يشكّل الحكومة؟
الرئيس المكلف يرفض مصادرة صلاحياته في هذه المسألة، ولكن في الموازاة تبرز أعراف جديدة وغير مألوفة، وأما المبادرات فتأتي من رئيس الجمهورية، وأفكار الحلول تُبتدع من جبران باسيل!
ثمانية أشهر، والسؤال نفسه يتكرّر: هل يريدون حكومة؟
وجوابهم هو نفسه، يُستهلّ بنشيد الحرص على البلد، وأنّ الضرورات تحتّم التعجيل في تشكيل الحكومة، ويُختتم بالقول «صحيح أننا تأخّرنا، لكننا مصمِّمون على الوصول إلى حكومة، ورغم كل العقد ستتشكل الحكومة في نهاية المطاف إن عاجلاً أو آجلاً، ونحن نعمل على حلحلة العُقد».. مع أنها عُقدة وحيدة!
كلامٌ عمره أشهر، ثبت أنّ مطلقيه لا يرون أبعد من أنوفهم؛ «مقعد الوزير الضائع»، في نظرهم أكبر وأهم من كل الضرورات، و»الثلث المعطل» هو خشبة الخلاص من كل ما يتهدّد البلد وأهله! ويتجاهلون:
– ضرورات الداخل؛ بلد منهار، أزمات ملتهبة تُطفَأ بالكلام الفارغ، والأزمة النقدية تتجمّع غيومُها السوداء في الأجواء اللبنانية، لا يُعرف متى ستمطر على الناس وجعاً وعوزاً وفقراً لا حدّ له. في هذا الجانب، هيكلٌ يوشك أن يتداعى، والنزفُ السياسي مستمر والجائعون من السياسيين مستمرون في عدم لأم الجرح وتوسيعه. يقولون إنّ هناك مَن يريد اضعاف العهد، لكنهم يتنافسون أنّ هناك مَن يمعن في إضعاف البلد وتطييره وتطيير العهد معه.
– ضرورات الخارج، وهي الأخطر على المنطقة ولبنان ضمنها؛ الجغرافيا السياسية والعسكرية تتغيّر، وتفرز وقائع جديدة وخريطة أو خرائط جديدة في المنطقة.
ومع ذلك، هذه الضرورات لا تُرى، ويحجبها مقعدُ وزير؟!
التحذيرات ترد إلى لبنان من جهات مختلفة، بعض السفراء يقولون للمسؤولين انتبهوا من الاحتمالات الصعبة، التي قد تطرأ في أيّ لحظة. وآخر التحذيرات وردت على لسان أحد السفراء، بقوله لمسؤول كبير: عينكم على سوريا، دونالد ترامب قرّر انسحاباً أحاديّ الجانب، كثيرون يقولون إنهم يجدون صعوبة في فهم العشوائية التي تتّسم بها خطواته وتحركاته وقراراته، ولكن في قرار الانسحاب من سوريا، وحتى لو لم يكن هذا الانسحاب سريعاً، هدف خطير، الأمر ليس مناورة.
يكشف السفير أنّ خلفية قرار ترامب، هي محاولة لفرض قواعد اشتباك جديدة، في هذه الرقعة الجغرافية من سوريا إلى كل محيطها وصولاً إلى إيران وتركيا، تضع الكل في مواجهة الكل، بما يمكّن الولايات المتحدة ومعها إسرائيل، من قطف ثمار صراعات الآخرين.
من هنا، يضيف السفير، فإنّ فترة المئة يوم المحدّدة لتنفيذ قرار الانسحاب العسكري الأميركي تبدو شديدة الصعوبة، على المنطقة بأسرها، وتضعها على فوهة بركان، ويبدو أنّ ثمة أطرافاً في المنطقة بدأت منذ الآن تعتبر أنّ هذه الفترة مفصلية بالنسبة اليها، ولذلك بدأت سباقاً مع الوقت، وشرعت في محاولة تحديد وجهة الحراك السياسي والدبلوماسي والعسكري، لبناء تحصيناتها وتحديد كيفية احتواء الأهداف الخفيّة وراء قرار ترامب الأخير.
يلفت السفير في تحذير إلى أنّ إسرائيل تعمّدت الظهور في موقع المتفاجئ بقرار ترامب، ويقول إنّ الموقف الإسرائيلي مثير للدهشة، وثمّة مَن في الوسط الإسرائيلي يميل إلى ترويج أنّ إسرائيل هي الخاسر الأكبر من الانسحاب الأميركي إن حصل، لأنها ستكون في تلك الحالة مضطرة إلى إدارة الصراع على حدودها الشمالية سواءٌ مع سوريا أو لبنان، وحيدة كما كانت في السابق.
يقول السفير أكاد أجزم أنّ إسرائيل هي في قلب القرار الأميركي بالانسحاب، وثمّة خشية كبرى من أن يكون القرار مستبطناً دوراً حربياً اكبر لإسرائيل اوسع من لبنان الى سوريا وصولاً إلى إيران. ويجب على لبنان ألّا يأخذ موضوع الأنفاق والإثارة الإسرائيلية لها في هذا التوقيت بتجاهل أو استخفاف.
بالتأكيد، أنّ صورة كهذه تتطلب مقاربةً داخلية مختلفة عمّا هي عليه الآن، تتطلب استنفاراً على كل المستويات، ولكن هنا يبرز السؤال: أيُّ حصانة يمكن أن يوفّرها «الثلث المعطل»، إذا ما دخلت المنطقة في مجهول حربي؟ وأيُّ جدار دعم سيبنيه «معالي الوزير الضائع»، لمنع تمدّد النار إلى هذا البلد إذا ما اشتعلت في أيّ لحظة؟
الجواب معروف، لكنه مشروط قبل كل شيء بأن يكون في لبنان مَن هو مسؤول فعلاً، وعينُه ترى ما آل اليه حال البلد، وما يجري، ويتحضّر من خلف الحدود!