قال زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، المولود في ظل جمهورية كردستان في مدينة مهاباد، التي انتكست سنة 1947، في أحد تصريحاته خلال حملة استفتاء الانفصال في 25 ايلول 2017، إن “أفضل وفاء لتضحيات شعب كردستان هو الاستقلال والتحرر النهائي”، لكن هذا المسعى، الذي يبلغ من العمر قرنا من الزمن، مازال حلما عصيّا على التحقيق.
استفتاء 25 ايلول 2017، ليس سوى حلقة من تاريخ طويل، سجل أولى محاولات التمرّد سنة 1919 مع حركة القائد الكردي العراقي الشيخ محمود الحفيد، الذي يعدّ أول الثائرين الأكراد في العراق الحديث، لتأسيس مملكة كردستان (استمرت المملكة من 1923 حتى 1924 ولم يكن معترفا بها دوليا).
ومنذ ذلك التاريخ، والحركات الكردية تسعى إلى إقامة دولة كردية، متعاونة مع قوى خارجية، سرعان ما تستنفد أغراضها منهم وتقلب لهم ظهر المجن، من دون أن يتعلموا من ذلك درسا، حسب أكاديميين وباحثين وسياسيين ودبلوماسيين تحدثوا لصحيفة ”العرب” اللندنية، إذ يقول سعد ناجي جواد، الأستاذ في كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد والمحاضر في إحدى الجامعات البريطانية، إن مسألة تأسيس دولة كردية منفصلة في العراق لا تتعلق برغبة الأحزاب والقيادات الكردية أو من يحكم العراق، إنما تتعلق بموقف ورد فعل الدول الإقليمية أولا: تركيا وإيران وسوريا، التي تعارض بشدة قيام مثل هذه الدولة، لأن ذلك يعني تحريض أقلياتها الكردية.
ويضيف سعد ناجي جواد أن الدول الكبرى تستخدم اليوم الأكراد، مثلما استخدمت في الماضي الشيخ محمود الحفيد والملا مصطفى البارزاني كورقة ضغط على الحكومات المركزية في المنطقة. لكن عندما تنتفي الحاجة إليهم تتخلّى عنهم، بل وتتعاون مع الحكومات للقضاء على الحركات الكردية، وهو ما حصل مع الشيخ محمود والملا مصطفى في العراق، ومع القاضي محمد وقاسملو في إيران ومع عبدالله أوجلان في تركيا.
يستدل جواد على ما يقول برد الفعل الدولي والإقليمي على الاستفتاء، الذي دعا إليه مسعود البارزاني، إذ لم تؤيده أي دولة باستثناء إسرائيل، وهذه الأخيرة تفعل ذلك، منذ زمن، ليس حبّا في الأكراد وطموحاتهم، وإنما لسببين:
إبقاء العراق ضعيفا وممزقا ومشتتا، لمعرفتها بقدرات العراق وكيف أنه الدولة الوحيدة خارج دول المواجهة التي شاركت في كل الحروب ضدها، والدولة الوحيدة التي رفضت التوقيع حتى على الهدنة سنة 1948، أي أنها لا تزال في حالة حرب معها.
استخدام هذه الورقة لإجبار العراق على توقيع معاهدة صلح معها والاعتراف بوجودها، وإذا ما تم ذلك، فإنها بالتأكيد ستتخلى عنهم، بل وستساعد الحكومة العراقية، التي ستعترف بها، في القضاء على حركاتهم.
بالمقابل، لا يرى أحد ممن شغلوا إدارة مديرية الأمن في ما كان يسمّى منطقة الحكم الذاتي إبان النظام العراقي السابق أن هناك وجها للمقارنة بين ما جرى قبل مئة عام وما يجري حاليا، إذ يقول إن الشيخ محمود الحفيد ثار على دولة مستعمرة وآزره الشعب الكردي ضدها، لكن العراق، الآن، شبه مستعمر والأحزاب السياسية الكردية تشارك في العملية السياسية والحكومة وليست ضد الدولة المحتلة، مشيرا إلى أن الانتفاضات الكردية ضد الحكومة توقفت منذ عام احتلال العراق 2003.
ويشير إلى أن ظروف المنطقة والوضع الدولي لا يسمحان بتأسيس دولة كردية. ففي عهد الحفيد كانت القضية تخص العراق، لكنها حاليا أصبحت تخص إيران وتركيا وسوريا أيضا ودولا كبرى، مذكّرا بأن حكومة العراق عام 1970 بمجرد أن أصدرت بيان 11 مارس، الذي أعطت بموجبه للأكراد الحكم الذاتي اغتاظت الدول الإقليمية وبعض الدول الكبرى، فكيف ستقبل بوجود دولة؟
ويواصل مشيرا إلى أنه في عهد الحفيد كان للأكراد قائد واحد وكلهم خلفه، أما الآن فهناك أكثر من قائد وحزب اختلفوا في الانتخابات وعلى مرشحي الوزارات فكيف سيتفقون على دولة، ومن يكون قائدها، وهم مختلفون على اختيار رئيس الإقليم حاليا؟
يمكن أن يضاف إلى ذلك أن الأحزاب والشخصيات الكردية أصبحت لها ارتباطات مع أكثر من دولة ولكل منها مصالح وأهداف تختلف عن مصالح غيرها وأهدافها، كذلك بروز موضوع التركمان والأقليات الأخرى في منطقة كردستان والذين هم على خلاف في أكثر من منطقة في إقليم كردستان مما يضع العراقيل أمام إنشاء دولة كردية.
مرحلة جديدة
تعتقد الباحثة العراقية هدى النعيمي أن المنطقة الآن على مشارف مرحلة سياسية جديدة في أعقاب هزيمة تنظيم داعش، والجميع يتابع بحذر مآلات الموقف الأميركي حيال إيران. وتجزم بأن الإطار الإقليمي الذي يضم دولا عربية وغير عربية لن يقبل بتشكيل دولة كردية في كردستان العراق.
وتقول النعيمي إنه لا شك في أن استفتاء 2017 يعد استطلاعا تاريخيا، أريد بأحد جوانبه تثبيت مكانة الرئيس مسعود البارزاني كزعيم كردي وليس ابنا لقائد الحركة الكردية. لكن هذا السعي إلى الاستقلال أضعف الأكراد من دون شك. وأصبحت القيادات الكردية بين مطرقة الشعب، الذي أدلى بصوته متسائلا عن جدوى هذه الخطوة وسندان الحكومة العراقية، التي تمكنت عبر أدواتها التأثيرية من أن تثني الأكراد عن مطلبهم، وكانت نتائج الاستفتاء، كما وصفها أحد الساسة الأكراد “إنجاز نائم” سيحقق هدفه متى ما لزم الأمر.
إلى جانب التحديات والمعوقات الإقليمية والدولية، يعاني الأكراد من انقسام سياسي داخلي، أثّر على طموحاتهم الانفصالية كما يؤثر على سير المؤسسات ومنظومة الحكم في إقليم كردستان العراق. ويرى عبدالستار الراوي، السفير العراقي الأسبق في طهران، أن الدولة الكردية كانت حلم الكثيرين من الأكراد وأصبحت بعيدة المنال في الوقت الحاضر، مشيرا إلى أن المعوق الرئيس الذي يواجهها هو الانقسام داخل الصف الكردي نفسه، فمنهم من يتمسك بالحكم الذاتي ويعدّه إنجازا محمودا وأنه حقق للأكراد تقدما نسبيا على صعيد التنمية في مساراتها الاجتماعية والثقافية والخدمات العامة، وأن الإقليم الكردي استطاع تحقيق بعض البنى الارتكازية بفضل الحكم الذاتي ومنهم من يرى غير ذلك.
ويصف قيس النوري، الأكاديمي العراقي في العلاقات الدولية، هذا الانقسام بالتحدي الأكبر الذي يواجه مشروع قيام الدولة الكردية والمعضلة التي تقوي الرفض الخارجي، منوها إلى أن فرصة إقامة دولة كردية تتطلب إعادة تقسيم دول المنطقة برمتها على غرار اتفاقية سايكس بيكو، وهو ما يعني استحداث مخطط دولي توافقي بين الدول الكبرى لتفتيت الدول القائمة حاليا والمحيطة بالمنطقة الكردية، وفي ظل هذا الافتراض فقط يمكن أن يكون هناك كيان كردي مستقل.
بين الأكراد من يؤيد قيام الدولة الكردية لكنه يرى أن الوقت لم يحن بعد وأن تحقيق هذا الحلم القومي يحتاج إلى بصيرة استراتيجية توفر شرط أمن الدولة المنتظرة وتتطلب إعدادا سياسيا محكما، في حين يدعو آخرون إلى اغتنام الفرصة المواتية الآن وإعلان قيام الدولة. وهنا يتوزع هؤلاء إلى منهجين، الأول يؤكد على أهمية بناء الدولة الوطنية الكردية في حدود الإقليم، بينما يرى أصحاب المنهج القومي أن لا معنى لقيام الدولة ما لم تكن مقدمة لتأسيس كردستان الكبرى لتضم إليها الأقاليم الكردية في إيران وتركيا وسوريا.