كتب أنطوان فرح في صحيفة “الجمهورية”:
هناك مجموعة من الاستحقاقات المالية والاقتصادية التي ينبغي التعامل معها في العام 2019، بصرف النظر عن موعد تشكيل الحكومة، واذا ما كانت ستتشكّل في النتيجة، ام انّ القضية أكبر من ذلك.
لم يصدر بعد التقرير المالي للعام 2018 لتحديد حجم العجز في الموازنة، لكنّ الأرقام التي توفّرت حتى الآن تشير الى انّ العجز اقترب من 6,5 مليارات دولار، أي ما يقارب نسبة 40% من حجم الموازنة، و14% من حجم الاقتصاد (GDP) المقدّر بحوالى 52 مليار دولار.
وللتذكير، عندما تمّ إقرار موازنة العام 2018، كان مُقرراً ان يبلغ العجز فيها حوالى 4,65 مليارات دولار، بتراجع طفيف عن العجز المسجّل في موازنة العام 2017 (4,8 مليارات د.). وبَدت موازنة 2018 التي تسلّح بها لبنان الرسمي في مؤتمر «سيدر»، وكأنها تلبّي مُسبقاً، أحد تعهدات لبنان أمام المؤتمر.
إذ سبق للحكومة اللبنانية ان التزمت بخفض نسبة العجز الى الناتج بمعدل 1% سنوياً لمدة 5 سنوات، وهذا يعني انّ العجز في 2018، وفيما لو نفّذ لبنان التزاماته، كان سينخفض من 4,8 مليارات دولار الى 4,3 مليارات د. والهدف من هذا الالتزام الوصول الى نسبة عجز لا تتجاوز الـ5% من الناتج المحلي في العام 2022. لكن ما حصل انّ العجز ارتفع من 9% الى حوالى 14% في سنة واحدة، وهي السنة التي أطلقت فيها الحكومة تعهدها أمام المجتمع الدولي بخفضه تدريجاً. وهذا يعني انه لو نفّذت الحكومة بدءاً من العام 2019 خفض العجز 1% سنوياً، فإنها ستصل بعد 5 سنوات الى 9%، وهي النسبة التي سجّلها العجز في العام 2017، والتي على أساسها تمّ الالتزام ببدء خفض العجز، لأنها غير مقبولة مالياً، وتؤشّر الى مخاطر أكيدة!
الى ذلك، هناك واقع آخر يوازي بخطورته تفاقم العجز في الموازنة يتعلق بميزان المدفوعات الذي ارتفع العجز فيه الى مستويات غير مسبوقة. ورغم عدم صدور البيان النهائي لتحديد رقم العجز الذي أقفل عليه ميزان المدفوعات في العام 2018، الّا انّ التقديرات تشير الى احتمال تجاوزه الـ7 مليارات دولار (وصل الى 6,57 مليارات د. في تشرين الثاني) اذا احتسبناه وفق القواعد التي يتبعها صندوق النقد الدولي، ويقترب من 5 مليارات دولار (بلغ 4,08 مليارات في تشرين 2) اذا احتسبناه وفق القواعد التي يتّبعها مصرف لبنان، والتي تنصّ على احتساب قيمة اليوروبوند في تحديد وضعية ميزان المدفوعات.
في الحالتين تبدو المشكلة معقّدة، وتشير بوضوح الى شحّ مالي متفاقم سيؤثّر حتماً في قدرات مصرف لبنان على الحفاظ على قيمة النقد الوطني. وستكون كلفة الاستمرار في ضمان استقرار سعر صرف الليرة باهظة اكثر، وهو ما أكده حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، عندما تحدث عن كلفة تثبيت سعر النقد في ظل استمرار تعثّر تشكيل الحكومة. لكنّ هذه الكلفة تبقى طبعاً أقل من كلفة أي دعسة ناقصة في اتجاه تحرير سعر الصرف، او خفض قيمة الليرة الى مستويات جديدة، ومحاولة تثبيت السعر على سقف جديد، في هذه الظروف بالذات. كذلك ستكون المشكلة صعبة عندما ستصدر الارقام الرسمية للعام 2018 ويطّلع العالم على ما حصل فيها من تجاوزات.
لا شك في انّ عام 2019 سيكون استثنائياً لجهة التعقيدات المالية، في غياب أي ايجابيات يمكن البناء عليها، باستثناء وجود رياض سلامة على رأس مصرف لبنان، والقادر بما يمتلكه من خبرة ومخزون ثقة على قلب المعادلات، بدليل روحية التفاؤل التي بثّها في الناس، في إطلالته التلفزيونية الأخيرة، على رغم أن لا الأرقام، ولا المناخ السياسي، يمكن البناء عليهما لإقناع الرأي العام بأنّ الوضع المالي لا يزال تحت السيطرة. وتمكّن حاكم مصرف لبنان، الذي انتقد ما سَمّاه «صناعة اليأس»، من أن يُثبت انه رائد بلا منافس في صناعة التفاؤل والثقة. ونجح سلامة في بثّ الثقة، وهو بذلك أعطى الوضع المالي جرعة أوكسيجين تساعد على الصمود لمدة أطول، بانتظار أعجوبة ما، يمكن ان تبدّل بين ليلة وضحاها المشهد السياسي العام، وتنقل البلد الى حقبة أفضل. لكن، من دون هذا التبديل في المشهد العام، سيكون 2019 أقسى من 2018.