IMLebanon

الدولة الدستورية والعيش المشترك

كتب عمر مسقاوي في صحيفة “اللواء”:

إنَّ المتابع لأحوال السياسة في أيامنا هذه لا بدَّ وأن يلاحظ الأخطاء في توصيف الامور التي تدل على الفقر في المفاهيم الدستورية ودورها في قيادة البلاد، والتي تأكل من حضورنا الثقافي والاجتماعي ومعاني العمل السياسي.

فالدولة في مفهومها الدستوري الحديث هي الخدمة العامة، وهذه تتقدم على قوالب تشكيلها والنزاع حولها.

فحينما عادت حكومة شارل ديغول، بعد استرجاع باريس وفرنسا من غزو المانيا في الحرب العالمية الثانية، اعتبر مجلس الدولة الفرنسي أداء المجالس البلدية والموظفين الذين عينتهم حكومة فيشي أداءً إدارياً صحيحاً يؤخذ به ويبنى عليه في ظل الدولة الوطنية التي لم تعترف بحكومة فيشي  وحاكمت اعضاءها. وقد بُنيَ على هذا المبدأ قواعد قانونية تتعلق بالظروف الاستثنائية هي فصل هام من فصول القانون الاداري.

فالدولة في أيّة صيغة من الصيغ الدستورية لها غاية واحدة: حراسة مصالح المواطن وليس مصالح شركاء الحكم في الدولة.

من هنا، يتضح لنا كم هو جهل واقعنا السياسي المتقاسم مكونات طائفية تحت ستار  التوافق المزري بمبادئ الحكم وبالثقافة العامة ومستقبل الأجيال.

من هنا، نجد انفسنا في هذا المعترك السياسي أمام مسلمات، لا سلامة فيها لأحد، تزوِّر روح البلاد ومسار العيش المشترك في دلالته الوفاقية ومعناه.

فالعيش المشترك عنوان لاتفاق الطائف يتطلبُ تحديداً يحاور عقول الجالسين على مائدة الحكم والرافعين زوراً شعار العيش المشترك لغير سبب مقنع سوى أنهم مختلفون حول ما لا يجوز الاختلاف حوله.

فعبارة «العيش المشترك» مفردتان غير متلازمتين، وانما يضاف عبارة المشترك لعبارة العيش لتوصيفها بما يخصص عمومها.

وتخصيص العام تضيق لمداه وهو لا يكون إلا لغاية تهدف لتفصيل معنى العام وتحديد اهدافه وغاياته.

فحينما يوضع تعبير «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك» كبند اخير في قائمة «المباديء العامة والاصلاحات»، كما جاء في نص وثيقة الوفاق الوطني، يصبح هو معيار المشروعية لأن هذا المبدأ يرتبط بالبند (أ): «لبنان وطن سيد مستقل وطن نهائي لجميع ابنائه. واحد ارضا وشعبا ومؤسسات في حدوده المنصوص عيها في الدستور اللبناني والمعترف بها دوليا».

من هنا تصبح الفقرة الاخيرة من المبادئ الاساسية هي المعيار السابق على البنود التي سبقتها.

بمعنى آخر، فعبارة «لا سلطة تناقض  ميثاق العيش المشترك» تعني أنّ ميثاق العيش المشترك هو  مفهوم ثقافي وطني يخص المواطن وحده. وإنَّ السلطة مستقلة عنه في آليتها التي تعمل لخدمة المواطن في تحقيق هذا المبدأ الذي يتمثل فيه معنى العيش المشترك دون تمييز طائفي.

فتأليف الحكومة عمل اجرائي سياسي. أمَّا التوزيع المذهبي المبني على نسبٍ محددة، فهو مجرد اتفاق سياسي يرتبط بالبند (ي) من اتفاق الطائف. لأنَّ المقصود بالسلطة في عبارة: «لا سلطة تناقض العيش المشترك هنا»، هي سلطة التشريع الذي يخضع لرقابة المجلس الدستوري أو سلطة مجلس الدولة في ما يتعلق بالقرارات الادارية على اختلافها. بدليل أنه إذ تألفت حكومة لم يراعَ فيها التوزيع الطائفي ونالت ثقة المجلس تكون حينئذ صيغة العيش المشترك مسكونة في قراراتها وليس في أشخاصها.

ذلك أنَّ العيش المشترك هو مفهوم ثقافي وطني أولاً تتحدّد اهدافه في بنية المجتمع في اسس وحدته الاجتماعية، وهذا يعني اشتراكاً في المسؤولية وليس في الحقوق النسبية المفترضة من الوجهة الديمغرافية لطائفة ما. فهذا التفسير يُفقِد النصَّ معناه إذا غلبت عليه النسبية لأنَّ عمومية مفهوم العيش المشترك هي أن تشترك سائر القوى البشرية المنتمية الى أديانها ومذاهبها اشتراك انتاج وليس اشتراك تقاسم. فهناك فرق بين الشيوع في الملك والاشتراك في الانتاج وهذه قضية ثقافية تربوية وليست قضية سياسية.

وهذا هو معنى اتفاق الطائف. انه بناء مواطن لبناني ضمانه العيش المشترك في عمق ثقافته وفكره وتطلعاته، وإلا فإننا جميعا نحرث  في البحر كما يجري اليوم في ازمة تأليف الحكومة ولغير مستقبل.

فالموقف السياسي العام هنا وهناك يتطلب تصحيحا للمفاهيم، اذ هنالك احيانا في لغتنا السياسية تزوير لمفهوم العيش المشترك واستهزاء بعقول الساهرين على التلفزيون والمتتبعين لعناوين الصحف وهم يستمعون الى بلاغة التصعيد وبلاهة ترداد الشعارات مصحوبة بمشاعر العظمة والتباهي. ذلك الفيروس السياسي الذي سلب عقول الاجيال كما ازرى بروحهم في بناء مستقبلهم الوطني حين اصبحت الانتخابات على اختلاف أنواعها المهنية وغير المهنية وصولاً الى تشجيع المباريات الرياضية، اصبحت هذه المناسبات مسرحا لتقاسم يفرغ الاحقاد والتنافس المخلّ بوحدة الجيل الذي يهدم البنية التحتية للعيش المشترك لصالح سلطة سياسية زائلة مهما طال الزمن.

فحينما ينسحب وزراء أي طائفة من الطوائف كوسيلة من وسائل العمل السياسي، فإنهم يتخذون موقفا سياسيا تجاه الحكومة. أما حين يستعصي على رئيس الحكومة المكلف اختيار فريق عمله من الوزراء وفقاً للاتفاق السياسي المتعلق بتوزيع النسب الطائفية، فهذا الأمر يشكل موقفاً في مواجهة مفهوم الدولة ومفهوم العيش المشترك، وليس في مواجهة الحكومة. ويصبح التمسك بالفقرة (ي) من دستور الطائف، لتبرير هذه المواجهة، هرطقة طائفية ومصادرة لحقوق اللبنانيين جميعاً في العيش المشترك السابق على اتفاق الطائف والمسكون ثقافياً وتربوياً في معنى الانتماء الوطني.

فاتفاق الطائف، إذ يُبنى على النسبية الديمغرافية الطائفية وحدها تقاسمَ مكونات، يلغي قيمة الدين والإيمان بالله للجميع المؤسس لروح العيش المشترك كأساس ثقافي وروحي.

فالموقف السياسي اليوم حين يُصنع بحلوى المنافع تحت ستار معنى العيش المشترك يأكل تمثال المجتمع  والسلطة معاً.