Site icon IMLebanon

الحريري وباسيل: إنكار وعناد يعطّلان أمور البلاد

كتب ابراهيم الأمين في “الاخبار”:

يقول سعد الحريري لا لكل المقترحات، ويقول لا قوية كأنه هو المنتصر! هذا انطباع أحد المعنيين بالاتصالات الجارية بشأن تشكيل الحكومة. ويرفقه بتقدير أن الحريري يتّكل على أن جميع القوى السياسية في لبنان، وفي مقدمها الرئيس ميشال عون وحزب الله، يتمسكون به رئيساً للحكومة. لكن هذا المعني يعتقد بأن الحريري لن يتراجع إلا في حالة سمع من الرئيس عون تحديداً عبارة: خذ قرارك سريعاً، بين يديك مقترح يرضي الجميع، وإذا كنت غير راغب في الحل فالبديل هو تكليف غيرك بالمهمة!

لكن هل يفعلها ميشال عون؟

من غير المنطقي توقّع أمر كهذا وفق معطيات الساعة. لكن المشكلة تصبح مضاعفة عندما يكون رئيس الجمهورية مضطراً، ايضاً، إلى وضع سقف لـ«تشاطر» وزير الخارجية جبران باسيل. والمشكلة، هنا، أن عون لا يرى أي سلبية في ما يقوم به باسيل، بل في كل مرة يفتح فيها ملف الحكومة، يعود عون ويطلب من جميع الوسطاء التواصل مباشرة وحصراً مع باسيل. حتى عندما يبدي عون موافقة مبدئية على اقتراح أو مشروع حل، يعود ليتراجع، داعياً من يهمه الامر الى التفاوض مع جبران.

وفي لحظة الاشتباك، يظهر أن باسيل والحريري متحالفان في وجه الشريك الثالث في ملف الحكومة، أي حزب الله. وهما يريدان من الحزب إعادة فتح الجمعية الخيرية، والتبرّع من كيسه لتسهيل الأمر. وهو ما لمسه الجميع في المفاوضات الأولى حول الوزير السنّي السادس. يومها، أفصح المقرّبون من باسيل والحريري عمّا يكتمه الأخيران: ألا يستطيع الحزب إقناع النواب الستة بالامتناع عن مطلب تمثيلهم، ويفتح باب الحل؟ وعندما يأتي الجواب بأن الحزب مهتم بتمثيل حلفائه لا بإقصائهم، وهو ما دأب عليه منذ اليوم الاول لتورطه في المسألة الداخلية، يكون تعليق المتسائل: هذا يعني أن حزب الله لا يريد تشكيل الحكومة؟

المعادلة، هنا، لا تتعلق بكيفية إدارة المعركة الحكومية. وأخطاء الحزب في هذا السياق ليست غائبة، مثله مثل البقية، بما في ذلك النواب الستة. لكن المشكلة ليست هنا، بل في أصل مقاربة الحريري وباسيل لكيفية تشكيل الحكومة. وكل منهما يعتقد أنه محق في مطالبه. ولذلك، لا يظهر الرجلان أي اهتمام حقيقي بمسألة تمثيل النواب الستة في الحكومة. بل أكثر من ذلك، يتصرفان كأن تمثيل هذه الكتلة ليس حقاً كامل الأوصاف، بل «حق مفتعل»، وأن الحزب هو من اخترع هؤلاء. وفي هذه النقطة تكمن المشكلة الجوهرية، التي تعود الى كون الحريري وباسيل لا يريدان لغيرهما ما يريدانه لنفسيهما. وبمعنى أوضح، فإن الحريري الذي أقرّ بخسارته في الانتخابات النيابية، لا يريد التصرف على أنه خسر الزعامة المطلقة على سنّة لبنان. وقرر من طرف واحد أن خصومه الذين فازوا في الانتخابات ليسوا سوى تابعين لحزب الله. وهو في هذه الحالة، لا ينتبه الى أنه يتّهم كل من صوّت لهؤلاء النواب وغيرهم من خصومه بأنهم تابعون لحزب الله. وكأن الحريري، هنا، لا يريد أن يرى بعين واضحة أن الحقيقة القائمة تقول إنه لم يعد يملك ادّعاء النطق باسم أكثر من نصف السنّة في لبنان.

أما باسيل، فالمشكلة معه أكبر، لأن الرجل المفترض به أنه ابن مؤسسة سياسية عانت من التهميش ومن إنكار حقوقها في التمثيل والدور، يلجأ الى نفس آليات القمع والإقصاء. فهو لا يرى أن من الضروري تمثيل النواب الستة، ويتصرف بفوقية معهم، من طريقة التواصل الى موعد الاجتماع الى طريقة اختيارهم لممثلهم في الحكومة. كل تصرفات باسيل تنمّ عن خفة يجري التعبير عنها بهيئة المصاب بحالة الانتفاخ وجنون العظمة، والاعتقاد بأنه، فعلاً، مكلّف من الله بإدارة شؤون المسيحيين في لبنان، سواء الذين ينتمون الى تياره أو غيرهم، من الذين ينظر اليهم كضالين، وستأتي اللحظة التي يعودون فيها الى الطريق الصواب!

أما إذا دخلنا في تفاصيل البحث الحكومي حول الحقائب والأسماء والصلاحيات وإدارة شؤون الدولة والإدارات العامة والتوظيف والاستثمار والاتصالات الداخلية أو الخارجية، فساعتها، يحق للمرتابين أن يتكوّن لديهم شك في أن الحريري وباسيل متفقان على آلية جديدة للمحاصصة، وكل ذلك باسم حفظ حقوق قواعدهما الطائفية. يتجاهل الرجلان، عن عمد، الحقائق القاسية التي تقول إن البلاد لا يمكن إدارتها بهذه الطريقة. فالحريري لا يريد الإقرار بفشل مشروع رفيق الحريري الذي انطلق في الأيام الأخيرة من الحرب الأهلية، وبأنه مشروع ميت لا يمكن إنعاشه بزعبرات من هنا وهناك. تماماً كما باسيل الذي يعتقد بأن انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، هو عودة بالبلاد الى ثمانينيات القرن الماضي، ومعتقداً أيضاً بأن ما واجه المسيحيين اللبنانيين سابقاً، إنما كان بسبب أداء قياداتهم وليس بسبب البرنامج والأفكار والطموحات.

في حالة الحريري، أزمة إنكار أن لبنان ومعه المنطقة ينتقلان الى مستوى جديد من الادارة السياسية، وتالياً الاقتصادية. وفي حالة باسيل، أزمة فهم أن تثبيت حقوق المسيحيين لا يعني إعادة البلاد الى زمن سابق على الحروب التي كان لا بد أن تنتهي بخسارة حقيقية، وليس بكذبة لا غالب ولا مغلوب. وفي هذه النقطة، يتجاهل باسيل أن الخسارة التي أصابت المشروع السياسي الذي قام باسم المسيحيين ليست خسارة موضعية، لأن نتائجها تمثلت في فقدان عناصر التفوّق، الذاتية والداخلية منها، أو الموضوعية الخارجية منها. مشكلة باسيل في أنه يقرأ التحالف مع حزب الله على أنه حاجة من الحزب الى غطاء مسيحي لمقاومته، ولا يقرأ الأمر على أنه فرصة حقيقية للتيار الذي يقوده باسيل في استعادة موقع مقرر في البلاد بسبب استناده الى قوة المقاومة القابلة للصرف محلياً وإقليمياً ودولياً. لكن الصرف ليس مفتوحاً من دون سقف يتصل بقواعد اللعبة اللبنانية، على تخلّفها.

في حالة الحريري، تجري الأمور على قاعدة أن الرجل يمثل حاجة، ولذلك يحق له الدلع والطلب وفرض رغباته. مثلما يتعاطى مع ملف العلاقات مع سوريا. حيث يمارس خفة غير مسبوقة. وهي خفة تنمّ ليس عن جهل بالوقائع، بل عن عناد من لم يدرك بعد أنه المهزوم الاول في سوريا بعد المجموعات المسلحة، وأنه لا يمكنه، تحت أي ظرف، جعل لبنان يدفع ثمن الأخطاء السياسية وغير السياسية التي ارتكبها باسم الدفاع عن الشعب السوري.

وفي حالة باسيل، استخدام خاطئ للتحالف مع حزب الله، والتعامل معه كورقة صالحة للعمل مدى الحياة. وهو ما يدفعه في لحظة قصور وأنانية إلى أن يحاول انتزاع دعم حزب الله الآن، وفي هذه اللحظة، لمعركته الرئاسية. وهو هنا يتجاهل أنه يتصرف أصلاَ بالموارد الرئاسية القائمة، وأنه يدير ملفاته على أنه رئيس البلاد. وهو عندما يطرح فكرة الثلث المعطل، يتجاهل أنه يملك التوقيع الأهم باسم رئاسة الجمهورية، وأن تحالفاته السياسية داخل الحكومة وخارجها لا تجعله محتاجاً إلى الثلث الضامن الذي ربما يحتاج إليه الآخرون من خصومه. لكنها لعبة العناد والخفة السياسية. ولا يكتفي باسيل بطموحاته الرئاسية، بل هو يريد مقايضة دائمة مع كل خطوة مطلوبة منه أصلاً، مثل أن يرفع شعار ضم ممثّل النواب السنّة الى كتلته، ويعود ليقول إنه يتنازل بقوة وإنه يريد المقابل. وإذا ما سأله أحد عمّا يقصده، ينتقل فوراً الى جدول الأعمال الخاص بإدارة الميدل إيست والطيران المدني ووظائف في قطاع الخصخصة وإيدال ومدير المرفأ ومجالس إدارات مؤسسات كثيرة. وهو يعتبر أن الموظفين المسيحيين الموجودين حالياً يمثلون قوى الوصاية السورية، وأنه يريد تغييرهم باسم الحقوق…

وسط هذا الجنون، لا تشعر الطبقة الحاكمة بالأزمة التي تعصف بلبنان. كل هؤلاء، لا يهتمون لأمر الناس، ولا يهتمون للمشكلة القائمة اقتصادياً ومالياً ونقدياً. وما يفكرون فيه من مشاريع عمل للوزارات التي ستقع تحت أيديهم، لا يتجاوز لعبة المكاسب التي يألفها اللبنانيون منذ قيام هذا الكيان التافه. حتى عندما يحصل إضراب أو تحرّك شعبي، لا تتصرف هذه الطبقة بذعر، بل تعتقد أن عدة التحريض الطائفية والمذهبية لا تزال فعالة، ويمكن اللجوء اليها متى دعت الحاجة.

ولذلك، يكون السؤال موجّهاً الى من يعتقدون أن في مقدورهم تحريك الشارع ضد هذه الطبقة. وهو سؤال مركزي، يتعلق بشعارات الحراك الشعبي وبتوقيته وبنوعيته. وإذا ظن هؤلاء أن المحاباة التي تقوم على اختيار وسائل سلمية ستقود الى تنازلات، فهم واهمون، ذلك أن التغوّل الذي يسيطر على عقول الطبقة الحاكمة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن، لن يهزّه سوى عنف حقيقي. ومن واجب القوى المستعدة للتحرك، العمل على جعل هذا العنف منظّماً لا تركه ينفلت عشوائيا حيث لن يقدر بعدها أحد على لجمه!