كتبت هيام القصيفي في صحيفة “الأخبار”:
حين انتخب ابن دير القمر كميل شمعون رئيساً عام 1952، لم يكن ذلك الزعيم الماروني «القوي» والممثل الوحيد لطائفته. وهو لم يأت إلى سدة الرئاسة بعد إرغام الرئيس بشارة الخوري على الاستقالة، لأنه كان من نادي الزعماء التقليديين الذين حصرت بهم الرئاسة. بعدما انتهت ولايته عام 1958، أصبح شمعون رئيساً قوياً، وصانع الرؤساء والمتحكم بمصير عهودهم من موقع الخصم أو الحليف. وحين تحول فؤاد شهاب، من قائد للجيش إلى رئيس للجمهورية وخطّ نهجاً ظل قائماً لسنوات طويلة، لم يأت هو الآخر من مجموعة مرشحين من «الصف الأول»، لكنه صار كذلك بعدما صنعته الرئاسة رئيساً قوياً كما سلفه. كذلك كانت حال الرئيس الياس سركيس، الذي أُغفل حقه كثيراً، وهو الذي عايش أقسى ظروف الحرب واضطر يوماً إلى إعلان استقالته، قبل أن يعود عنها ويكمل ولايته رئيساً قوياً، تحت وابل القذائف والمعارك ويسلم السلطة من بعده.
استعادة هذه الوقائع، تأتي في ظل الجو السياسي الذي بات زاخماً بالكلام عن انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة، بدلاً من الكلام والسعي الجدي لتأليف الحكومة. وعلى رغم أن تجربة التعثر في تشكيل الحكومة، ليست فريدة من نوعها في لبنان، وحكومة الرئيس تمام سلام ضربت رقماً قياسياً قابعة في غرفة الانتظار، كي تأتي كلمة السر، إلا أن ما يحصل اليوم، مختلف تماماً. فالعقدة لا تقف عند فريق سياسي، كما وقفت عند التيار الوطني الحر، الذي أوقف التشكيلة في نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان في إطار ضغطه لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. إذ إن أسوأ ما قد يحصل للتيار، هو أن تفتح معركة الرئاسة في منتصف ولاية طالما انتظرها وناضل من أجلها، عدا عن أن تناول هذا الموضوع بسبب تقدم رئيس الجمهورية في السن، أمر غير أخلاقي أو غير إنساني! صحيح أن الضوء يتركز أكثر فأكثر على حركة الوزير جبران باسيل كمرشح رئاسي، لكن هذا لا يعني أن المرشحين الآخرين يقفون متفرجين. كل القوى السياسية باتت تتحدث عن معركة انتخاب رئاسة الجمهورية من الآن، والقوى المسيحية في مقدمها، كحدث سياسي واقعي تُرسم حوله سياسة تشكيل الحكومة والمفاوضات في شأن توزيع الحصص، مع أن الواقع يقول إن مجلس النواب الحالي لن ينتخب رئيساً للجمهورية، بل إن الحكومة الجديدة المفترضة لتكون حكومة العهد، هي من ستشرف على الانتخابات النيابية لانتخاب مجلس نواب جديد ينتخب الرئيس المقبل.
ثمة محطات عدة باتت تلخص الفورة الكلامية عن رئاسة الجمهورية: حديث رئيس الجمهورية عن خليفته المحتمل، إذ يتهمه خصومه بأنه أول من بادر إلى فتح هذا الملف؛ المصالحة بين القوات اللبنانية وتيار المردة وكلام الطرفين عن موقع هذه المصالحة في أي انتخابات رئاسية مقبلة؛ والمفاوضات الحكومية التي أعطى فيها عون باسيل حق التفاوض باسمه، وتمسك الأخير بوزارة الخارجية، كحلقة اتصال عربية ودولية تسانده مستقبلاً في أي معركة رئاسية. أما الأبرز، فالتذكير اليومي بموقع «الرئيس القوي» في معادلة الحكم حالياً، وأهمية استعادة هذا الموقع بعد غياب طويل، كأساس لاختيار الرئيس المقبل.
لكن الواقع أن معادلة الرئيس القوي، وما يفترض أن يحققه مارونياً ومسيحياً ووطنياً، لا تجد إجماعاً لدى القوى السياسية. يمكن الكلام وفق ذلك عن أن أداء العهد وباسيل يثيران استفزازات كثيرة لدى حلفائهما قبل خصومهما، في إطار السعي لتأكيد هذه المقولة. هذا الأداء الذي يُنظر إليه على أنه فوقي، يثير حساسيات هذه القوى التي أتعبها هذا الأداء وحاصرها بحيث باتت أسيرة حلفها ومحاولتها الحفاظ على الروابط السياسية من دون الارتداد على حليفها. فمن الذي يقول إن هذا الأداء لا يراكم سلبيات أكثر من الإيجابيات، ليس فقط عند حزب الله كما يقول خصومه؟ فالرئيس سعد الحريري يواجه اليوم بدوره مفاعيل الرئاسة القوية، خصوصاً حين تنتفض شخصيات سنية نافذة عند أول مفترق لتذكيره بضرورة الحفاظ على صلاحياته فلا يهدرها، من أجل تسوية رئاسية ظرفية. علماً أن تجربة الرئيس القوي لم تكن دائماً مشجعة، (حتى لو كان غير ممثل لبيئته). فالرئيس اميل لحود، ومهما كانت أشكال الاختلافات حوله، لم يكن رئيساً ضعيفاً، سواء من خلال علاقته مع الرئيس الراحل رفيق الحريري، أو بتمسكه بالرئاسة، فلم يستقل على رغم كل الضغوط ومواجهته خصومه إلى الحد الأقصى. ومن قال إن الرئيس المقبل لن يكون خارج أي اصطفاف، لأن تجربة وصول عون لن تتكرر بظروفها، إن لجهة موقع حزب الله أو الحريري أو حتى القوات، في صياغة تسوية رئاسية مماثلة لتلك القائمة حالياً. علماً أن من بين الذين ينتقدون فتح الرئاسة مبكراً، يشيرون إلى أن حزب الله دخل في لعبة الرئاسة ولو بطريقة غير مباشرة، حين يُنقل عنه أنه لم يعط وعداً لأي مرشح من الآن، بخلاف ما كانت عليه الحال مع عون.
ونظرية الرئيس القوي تحمل أيضاً التباسات حتى لدى القوى والشخصيات المسيحية. فالقادة الموارنة اتفقوا في ما بينهم على أن الرئيس يجب أن يكون الأكثر تمثيلاً لطائفته،ما يعني أنهم حصروا الرئاسة في ما بينهم، وهذا يمكن أن يشكل مستقبلاً إشكالية، لأن عدم الاتفاق على أحد الممثلين الأقوياء سيؤدي إلى ضياع الرئاسة، فنصبح مجدداً أمام فراغ رئاسي آخر. عدا أن الرئاسة ستكون حكراً على نادي مرشحين مغلق، من الزعامات التقليدية التي تتحكم بالأحزاب وبالانتخابات وبالتوريث، ما يحرم شخصيات مارونية لها ثقلها ووزنها من الوصول إلى رئاسة الجمهورية.