كتبت كلير شكر في صحيفة “الجمهورية”:
يدرك رئيس مجلس النواب نبيه بري أنّ مسألة إقرار الموازنة العامة بما تحمله من فرص ولو محدودة لإعادة تحريك العجلة الاقتصادية، تحظى بجاذبية شعبية، سيتجاوز مؤيّدوها من الرأي العام منتقديها، في ظلّ الأزمة الاقتصادية المتعاظمة التي تأكل من جيوب الناس ولا تعطيهم فلساً وتثير الرعب في نفوسهم من المستقبل القاتم.
ولكنّ هذا الاعتبار، لا يشكّل السببَ الأساس في دفع «أبو مصطفى» إلى المطالبة بإعادة احياء حكومة تصريف الأعمال لكي تملأ الشغور… وتغطّي عجزَ القوى السياسية عن التفاهم على تأليف حكومة سعد الحريري الثانية في عهد الرئيس ميشال عون. وثمّة اعتبارات سياسية أكثرُ أهمية تدفع برئيس المجلس إلى المناداة ببعث الحياة في «حكومة أليعازار».
يبدو جلياً، وفق المطلعين، أنّ بري بات مقتنعاً بأنّ جهودَ التأليف تواجِه جداراً مقفلاً، على رغم المبادرات والأفكار التي يبتكرها وزير الخارجية جبران باسيل ويحاول تقديمها على أنّها أهونُ الشرور.
ولكن لا ترجمة فعلية لهذه الطروحات التي انتهت جميعُها في «سلّة المهملات»، بعدما نأى الحريري بنفسه عن الردّ على الأفكار الخمسة التي وضعها باسيل أمامه في لقائهما الأخير.
صار ثابتاً بما لا يقبل الشك أنّ زعيم تيار «المستقبل» يلتزم الهدوءَ والسكينة ليس من باب التخلّي عن صلاحياته، وإنما على أساس أنّ العقدة في ملعب الآخرين الذين عليهم البحثُ عن علاج يسهّل عملية التأليف. أكثر من ذلك، يفضّل الحريري البقاء في صفوف المتفرّجين على أساس أنه لا يملك أيَّ قدرة على التنازل للمساعدة على حلّ العقدة السنية. وبالتالي إنّ التحرك يعني في نظره تقديمَ شيءٍ ما. وفاقدُ الشيء لا يستطيع تقديمه.
ولهذا يفضّل البقاء في موقع ردّة الفعل لا الفعل. حتى ردّة الفعل صارت مكلفة بالنسبة إليه، كما يقول مطلعون على موقفه. إذ إنّ إقتراح توسيع الحكومة إلى 32 وزيراً كما طرحه باسيل يقضي في أنّ يقتطع الحريري من حصته مقعداً لـ«اللقاء التشاوري» السني مقابل حصوله على الوزير العلوي بعد التخلّي عن الوزير المشترَك مع رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي لمصلحة وزيرٍ «حريريِّ» الانتماء، على أن يؤول الوزير المسيحي من الأقليات إلى تكتل «لبنان القوي» لتصبحَ حصته 12 وزيراً. الأمر الذي يرفضه رئيس الحكومة جملةً وتفصيلاً.
في المقابل فإنّ الطروحات التي ابتكرها باسيل لا تتضمّن تنازلاً فعلياً من شأنه معالجة خلل تمثيل السنّة من خارج «المستقبَليين». وبينما كان يعوّل على المبادرة الرئاسية ليكون جواد عدرا حلّاً وسطياً يؤمّن تقاطع القوى المعنية، أطاح الإخراج السيّئ بالمبادرة التي بلغت حلق المعنيين وسُحبت منه في اللحظة الأخيرة.
ليلةُ القبض على المبادرة
ويقول أحد المعنيين إنه لو كُتبت مراسيم الحكومة في «ليلة القبض على المبادرة»، وتلاها الحريري، لكان «ضرب مَن ضرب وهرب ومَن هرب». لكنّ المماطلة وإيقاظ عفاريت الحقائب الوزارية غير المحسومة أعاد الأمورَ الى مربّعها الأوّل.
وبهذا المعنى، تشير التطورات إلى أنّ العصا عَلِقَت في دولاب الحكومة. ولا مؤشرات جدّية قد تشي بإمكانية سحبها في القريب العاجل. ناهيك عن مؤشرات إقليمية بدأت تتسلّل إلى كواليس الطبخة الحكومية، من شأنها أن تثيرَ السؤال حول تأخير ساعة الولادة.
هكذا، استحضر بري الأرشيف العتيق للمؤسسات الدستورية، ليعودَ إلى اجتهادٍ سجّل عام 1969 أيام حكومة الرئيس الراحل رشيد كرامي عندما كانت في مرحلة تصريف الأعمال بعد أن تعذّر تشكيلُ حكومة جديدة بعد 7 أشهر من التكليف، وقضى الاجتهاد بإقرار الموازنة العامة، ليخلص إلى التأكيد أنّ «اعتبار الموازنة مسألة ضرورة فرض هذا الاجتهاد وأنّه يمكن اعتماده اليوم أيضاً».
اللافت أنّ كتلة «المستقبل» كانت أول مَن سارع الى تلقّف الدعوة وإبداء استعدادِها لدرس المسألة، مع العلم أنّ مسؤولين في «التيار الأزرق» قالوا صراحة إنّ «الحريري لا يمكن أن يقف عقبةً أمام إقرار الموازنة».
وهذا ما ذهب بالبعض إلى حدّ توصيف الاجتماع الوزاري الذي استضافه «بيت الوسط» أمس تحت عنوان البحث في تداعيات العواصف المناخية، بأنه تمهيدٌ لإعادة تفعيل العمل الحكومي.
إلّا أنّ أحد الوزراء المشاركين في الاجتماع نفى لـ«الجمهورية» هذا الاحتمال نفياً قاطعاً، مشيراً إلى أنّ الحاجة هي التي أملت عقد الاجتماع، ولا علاقة بينه وبين أيِّ سيناريو لا يزال قيدَ الدرس، حول مسار حكومة تصريف الأعمال ومصيرها.
عين التينة – بيت الوسط
ومع ذلك، فإنّ التقاطع بين «عين التينة» و«بيت الوسط» حول طرح «شدشدة» حال حكومة تصريف الأعمال، بات موضعَ تساؤل.
وفق المطّلعين على موقف الحريري، الأمور لا تأخذ أبعاداً معقّدة ومثيرة للجدل. هو فقط يرفض الإصطدامَ بـ«سقف الممانعة» الذي ترفعه رئاسة الجمهورية إزاء العقد الحكومية، كذلك يتجنّب الاشتباك مع الثنائي الشيعي، وتحديداً «حزب الله»، إزاء مطالبته بتمثيل السُنّة المستقلين، ربطاً بالمتغيرات الإقليمية المتسارعة التي بدّلت في موازين القوى.
وطالما أنّ الحريري عاجز عن تقديم أيِّ تنازلات اضافية، فهو مجبَر لا بطل، في البحث عن مخارج بديلة توقف حالة الشلل التي تصيب الحكومة، ولا خيارَ أمامه سوى إعادة تفعيل العمل الحكومي، على رغم أنّ خطوة من هذا النوع قد تُعدّ انتقاصاً من صلاحياته، وتقليصاً لفرص تأليف حكومة جديدة، وقد تفتح في وجهه جبهة اعتراض تحت عنوان التفريط بصلاحيات رئاسة الحكومة ومقامها.
ومع ذلك، يبدو الحريري غيرَ مكترث لهذا التقاطع «المثير للريبة» على حدّ قول أحد المطلعين، الذي يجمع بين الضفة الحريرية وتلك الشيعية، ويعيد التذكير بسيناريو مشابه شهده المسرح اللبناني عشية التفاهم على قانون الانتخابات.
يومها، بدت المساحة المشترَكة بين الفريقين حول النظام النسبي، جليّةً للعيان، في ردّ واضح على الطروحات التي كان يتولّى رئيس «التيار الوطني الحر» تقديمَها، ما أدّى الى تعطيل إحتمالات التمديد و«قانون الستين».
بهذا المعنى، يؤكد أحد المعنيين إنّ التلويحَ بورقة حكومة تصريف الأعمال، يهدف خصوصاً إلى مواجهة السقوف العالية التي يرفعها «التيار الوطني الحر»، من خلال «التهديد» بسيناريو بقاء الحكومة الحالية إلى أجل غير مسمى في حال استمرت حال المراوحة والتصادم بين الطروحات الحكومية، خصوصاً وأنّ قانون الموازنة العامة هو «بيّ القوانين»، واذا ما انعقدت الحكومة «المبتورة» دستورياً لإقرار هذا المشروع، ففي إمكانها اذاً أن تقرّ أيَّ مشروع آخر ولو كان أقل أهمية وفاعلية. ولا داعي بالتالي إلى البحث عن مخارج حكومية جديدة تذلّل عراقيل التأليف.
ولكن حتى اللحظة، لا يزال رئيس الجمهورية ممانعاً لخيار تعويم حكومة «منتهية الصلاحية»، خصوصاً وأنّ القبولَ به ولو موقتاً يعني تجميد حراك التأليف، الأمر الذي يُعتبر بمثابة ضربة مؤلمة في حقّ العهد.