كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:
لليوم الثاني، أثارت تصريحات وزير المال علي حسن خليل ردود فعل سلبية في السوق المالية. بعد التصريح الأول لـ«الأخبار»، قبل يومين، تراجعت أسعار التأمين على سندات الدين اللبنانية بالعملات الأجنبية المتداولة في السوق الدولية نحو 6 نقاط مئوية، وبعد التصريح الثاني، أمس، تراجعت الأسعار بنحو 4 نقاط. الخطير في التصريح الأخير أنه أتى بمثابة تصحيح للتصريح الأول، وأكّد أن الوزارة تتعاون مع مصرف لبنان والمصارف للقيام بإعادة جدولة للدين العام
بعد الصدمة التي تلقتها الأسواق المالية أول من أمس، إثر تصريح وزير المال علي حسن خليل لـ«الأخبار» عن إعداد الوزارة خطّة للتصحيح المالي الطوعي تشمل «إعادة هيكلة الدين العام»، أطلق خليل أمس تصريحاً تصحيحياً حاكى لهجة المصرفيين وأصحاب الرساميل، في محاولة لمحو الأثر السلبي الذي تسبّب به تصريحه الأول. إلا أن وقعه كان أكثر شدّة على الأسواق. وزير المال أكّد لـ«بلومبرغ» أن الوزارة تعدّ خطّة للإصلاحات في مالية الدولة وموازنتها تتضمن مجموعة من الإجراءات لإعادة التوازن المالي وتنفيذاً للتوجهات التي أقرّت في مؤتمر «سيدر»، وبينها «إدارة الدين واعادة جدولته بالتنسيق مع المصرف المركزي والمصارف».
لم يلتفت تجار السندات والمودعون لما سبق هذه العبارة وما تلاها في البيان نفسه، بل صدموا من أنها جاءت بعد لقاء الوزير وفداً مؤلفاً من رئيس الهيئات محمد شقير ورئيس جمعية المصارف جوزف طربيه ورئيس جمعية تجار بيروت المصرفي نقولا شمّاس. بدا كأن الهدف لا يقتصر على استبدال عبارة «إعادة هيكلة الدين العام» بعبارة «إعادة جدولة الدين العام» بل التلميح إلى أن إعادة الجدولة هي الخطوة التي يوافق عليها مصرف لبنان والمصارف.
ففي قاموس تجار السندات، إعادة الهيكلة أو إعادة الجدولة هما مؤشّر واضح على مستوى الأزمة التي يعيشها لبنان، والتي تستدعي القيام بإجرائين يعكسان مساراً إفلاسياً للدولة ويرفعان من احتمالات التخلّف عن السداد. صحيح أن هناك فرقاً بين إعادة الهيكلة التي قد تنطوي على مصادرة الدولة لنسبة من قيمة السندات لتخفيف مديونيتها، أو ما يسمّى «قصّة الشعر»، وبين إعادة الجدولة التي لا تتضمن عملية مصادرة، بل تفرض على حاملي السندات تجديداً قسرياً في اكتتاباتهم على فترات طويلة. إلا أن هذا الفرق لا يلغي الخلفية التي يمكن أن تدفع بلداً ما إلى طرح إجراءات قسرية من هذا النوع. الأسوأ في التصريح الثاني، أنه يشير إلى وجود رغبة وتنسيق بين وزارة المال ومصرف لبنان للقيام بعملية إعادة الجدولة في ظل سكوت هذا الأخير. بكل بساطة هذه الإجراءات المتنوعة تعكس مخاطر مرتفعة مالياً، وهي تدفع اي مستثمر للانسحاب فوراً. والمخاوف التي يثيرها هذا الامر لا تقتصر على خسائر السندات في التداولات، بل إن فقدان الثقة انعكس سلباً على حجم تحويلات الودائع من الليرة إلى الدولار، وتحويل الدولارات إلى خارج لبنان.
كذلك، كان المحللون الماليون في السوق يتعمّقون في تفسير تصريحات الوزير انطلاقاً من استحقاقات سندات الدين المترتبة على الدولة اللبنانية بالدولار الأميركي (يوروبوندز). فقد نقلت «بلومبرغ» عن مؤسسة «أموندي» لإدارة الأصول، أن السلطات اللبنانية ستسارع الى حماية المصارف اللبنانية في حال قرّرت تنفيذ عملية إعادة هيكلة للدين العام، ما يعني أن الضرر سيقع على حاملي سندات اليوروبوندز. كذلك أشارت إلى أن ما يحصل يعكس «قلّة التنسيق الواضح بين أعضاء الحكومة، بعيداً عن اي استراتيجية موحّدة ترسم كيفية التعامل مع الوضع المالي على بعد أشهر من استحقاقات سندات بقيمة 2.65 مليار دولار (مع الفوائد تصبح الاستحقاقات 4 مليارات دولار)، فضلاً عن أن وزارة المال لا يمكنها القيام بأي هيكلة للدين من دون اتفاق مع مصرف لبنان الذي يحمل 40% من مجموع الدين العام».
عملياً، بعد كل تصريح لوزير المال، سجّلت أسواق المال تدهوراً دراماتيكياً أدّى إلى خفض الأسعار وارتفاع أسعار التأمين على السندات، فيما زاد حجم التحويلات من الليرة إلى الدولار، ومن لبنان إلى الخارج، بحسب مصادر مطلعة. المصادر أكّدت أن مصرف لبنان تدخّل بعد التصريح الأول شارياً للسندات، وضغط على بعض المصارف المحلية والأجنبية التي يعمل فيها لبنانيون لإقناعهم بجدوى شراء السندات أو عدم بيعها، ما أوقف انهيار الاسعار في فترة بعد الظهر. وبعد التصريح الثاني، فقد السوق الثقة التي كان يوليها لوزارة المال ولمصرف لبنان، وبات الوضع الهشّ أكثر دقّة وهشاشة. أما عمليات التحويل من الليرة إلى الدولار ومن لبنان إلى الخارج، فقد تسارعت تبعاً لاستحقاقات الودائع في القطاع المصرفي ولتوفّر السيولة بالدولار التي عمل مصرف لبنان على تجفيفها خلال الأشهر الماضية.
وكانت السوق قد تجاهلت الشق الثاني من تصريح خليل لـ«بلومبرغ» والذي يتطابق مع تصريح وزير الاقتصاد، المصرفي، رائد خوري (راجع «الأخبار» أمس). استعاد خليل لهجة أصحاب المصارف الذين يرفضون أي شكل من أشكال إعادة الهيكلة والجدولة، ويربطون موافقتهم عليها بمشروع واضح لخصخصة قطاعي الاتصالات والكهرباء وتشريد موظفي القطاع العام. خليل قال بوضوح «إن الخطة تتضمن خفض الانفاق وإصلاح قطاع الكهرباء وخفض عجزه، وإشراك القطاع الخاص، وإصلاحات ضريبية وتحفيزية للاقتصاد، وتعزيز الواردات، لا سيما الجمركية، ووقف التهرّب (…) كما لا نية لاعادة الهيكلة والمسّ بحقوق حاملي أدوات الدين السيادي بأي شكل من الاشكال. كما انه ليس من ضمن المقترحات اعادة النظر بتثبيت قيمة العملة اللبنانية التي يشكل استقرارها عاملا مهماً. والتأكيد على التزام وزارة المال بكامل حقوق حاملي سندات الدين الصادرة باسمها وبقيمتها وكافة المترتبات المتوجبة عليها».
ولم يقتصر موقف خليل على استعادة خطاب خوري فحسب، بل كال المديح للقطاع المصرفي، شاطباً من بياناته أي كلام يتعلق بإعادة هيكلة الدين العام. فبحسب البيان الصادر عن المكتب الإعلامي لوزير المال، زاره وفد من الهيئات الاقتصادية بهدف «استيضاح الكلام المنسوب الى وزير المالية أمس في احدى الصحف المحلية». وقد «أثنى الوزير على الدور الوطني والبناء الذي يقوم به القطاع المصرفي اللبناني في تنمية الاقتصاد الوطني وإمداد القطاعين العام والخاص بالموارد المالية وانتظام الدورة المالية في البلاد، وأكد أنه ينبغي على جميع المعنيين المحافظة على سلامة وصلابة النظام المصرفي لما له من دور محوري في تأمين الاستقرار المالي والاقتصادي والاجتماعي. وبعد جولة مناقشات حول الوضعين المالي والاقتصادي المأزومين، أشاد الوفد بجهود وزير المالية في استنباط حلول مالية لخفض النفقات وزيادة الايرادات لكسر الحلقة المفرغة المتمثلة بارتفاع عجز الموازنة وتنامي الدين العام. وفي نهاية الاجتماع تم الاتفاق على استمرار التواصل والتنسيق بين الجانبين لإيجاد الحلول المناسبة لتحقيق الهدف المشترك بإنقاذ الوضعين المالي والاقتصادي».