كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
ما النتائج السياسية المتوقعة، إذا حدث ما لم يكن في الحسبان: مثلاً، في ذروة التشنّج السياسي الداخلي الذي يهدِّد بانهيارات سياسية واقتصادية واجتماعية، وربما أمنية، دخلت دمشق من خلال رجالها المعروفين على خط الوساطة وتمكّنت مِن إنجاز تسوية بين المتنازعين؟ وما هو الثمن الذي ستتقاضاه دمشق، في هذه الحال، مكافأةً على دورها… ما دام لا أحد يقدّم الخدمات مجاناً في السياسة!
السؤال خطر جداً لأنه يحاول استعادة الصورة التي لطالما ارتاح السوريون إلى تعميمها، خلال سنوات طويلة من وجودهم في لبنان، وهي أنّ اللبنانيين عاجزون عن إدارة شؤونهم بأنفسهم، وأنّ سوريا هي التي رعت استقرارهم منذ «اتفاق الطائف» حتى 2005.
في تلك المرحلة، كانت دمشق تنَصّب نفسها الوصيّ السياسي، ولكن أيضاً الاقتصادي – المالي والأمني. والعنوان الذي كان مرفوعاً آنذاك هو أنّ دمشق ركيزة الاستقرار اللبناني. ومن هنا، يجدر التأمل في خلفيات الكلام الدائر اليوم، في شكل ساخن، على احتمالات سقوط هذا الاستقرار، سياسياً واقتصادياً ومالياً، وربما أمنياً.
وهذه التساؤلات تصبح منطقية في ظل الحملة التي أطلقها حلفاء دمشق، والتي يبدو فيها واضحاً أنّ هناك اتجاهاً إلى «استعادة» جزء من دور سوريا الذي كان قائماً في لبنان قبل نيسان 2005… ما دامت العودة العسكرية متعذّرة، طبعاً.
فهذه الحملة المنظّمة، سياسياً وشعبياً وإعلامياً، والتي تتزامن مع تأزيم سياسي واقتصادي، ومخاوف من توتير أمني، تُظهِر لبنان عاجزاً عن إدارة شؤونه وحلّ الخلافات بين الطوائف والمجموعات، أي أنه عاجز عن البقاء بلا وصاية أو مرجعية لحلّ هذه الخلافات. وتالياً، توحي بأنّ دمشق قد تكون المرجعية الصالحة للقيام بهذه المهمّة.
فإذا كانت المواجهة السياسية في لبنان تدور اليوم بين الرئيس ميشال عون والرئيس نبيه بري و«حزب الله»، أي بين قوى محسوبة على خط سياسي واحد، هو الخط الحليف لدمشق، فهل يمكن أن تتدخّل دمشق، مرجعية أو وسيطاً، لإنهاء الخلافات أو لعقد مؤتمر يبحث في النظام وإبرام تسوية جديدة؟
ثمّة مَن يعتقد أنّ الأسد، بعدما ارتاح إلى ثبات وضع نظامه، بدأ يطمح إلى إعادة تموضعه في مناطق النفوذ الإقليمية السابقة، ومنها لبنان. وإذا تلقّى دعماً من حلفائه اللبنانيين، وهم ليسوا قلائل، فقد يكون قادراً على تنفيذ خطوته نسبياً.
واللافت أنّ الاشتباك السياسي الواقع اليوم في لبنان يدخل فيه العنصر السوري بقوة. فهناك مأزق انفتاح حكومة الحريري على سوريا، ومأزق دعوة سوريا إلى القمة الاقتصادية، ومأزق الدور اللبناني في التعاون الاقتصادي وإعمار سوريا، ومأزق التعاطي مع ملف النازحين السوريين…
والى ذلك، هناك مأزق النزاعات التي تعطّل الدولة وتهدّد بانهيارات، وهي إجمالاً واقعة بين حلفاء سوريا. وثمة مَن يخشى أن لا تجد هذه الخلافات طريقاً إلى الحلحلة، قصداً أو عن غير قصد، من دون أن تتدخّل سوريا وتساهم في وضع حدّ لها.
في أي حال، ما وصل إليه الوضع هو نتيجة لمسارٍ متدرِّج اعتمده فريق 8 آذار بهدف «تصحيح خطأ العام 2005»، ويمكن تظهير محطاته كالآتي:
– الأولى في 2005، عندما خرج الأسد من لبنان عسكرياً وأُعطيت قوى 14 آذار جزءاً وافراً من المبادرة، بدعم أميركي.
– الثانية بعد تموز 2006، ثم أيار 2008، عندما بدأ حلفاء الأسد يستعيدون المبادرة المفقودة.
– الثالثة، مطلع 2011، مع سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري وخروجه من لبنان وتضعضع قوى 14 آذار.
– الرابعة، أواخر 2016، في التسوية الرئاسية.
– الخامسة، اليوم، تتمثّل بمحاولة حلفاء دمشق، صراحة، استثمار التحديات لإدخال العامل السوري في اللعبة الداخلية.
ولكن، دولياً وإقليمياً، هل يُتاح للأسد مجدداً أن يتدخّل في لبنان؟
الأمور في الشرق الأوسط باتت تخضع لمعادلات جديدة. فما كان في مرحلة الحرب الباردة قد تغيَّر. ولا يبدو أنّ هناك ذريعة يمكن أن يطرحها النظام للتدخّل مجدداً في لبنان.
لقد بقي نظام الأسد في لبنان عشرات السنين، بتغطية عربية وإقليمية ودولية، تكرَّست بـ«اتفاق الطائف»، تحت عنوان أساسي وهو وقف الحرب في لبنان وتأمين حدّ أدنى من إدارته حتى تأتي الحلول في الشرق الأوسط. ولطالما استخدم الأسد العناوين المناسبة، مع العرب والغربيين، لتأكيد جدارته بالمهمّة: أن تكون له الوكالة لضرب المنظمات الإرهابية التي تهدّد الغرب، عدم المَسّ بالأنظمة العربية الحليفة للغرب، الإمساك بورقة المقاومة الفلسطينية، التزام الهدنة مع إسرائيل وتأمين الاستقرار اللبناني. وأساساً، عاش نظام الأسد عقوداً على هذه العناوين.
واليوم، سيحاول تسويق الأوراق إيّاها. مواجهة «داعش»، الإمساك بورقة النازحين، تأمين الهدنة مع إسرائيل وعدم المَسّ بالأنظمة العربية وعدم استخدام المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل.
وفي لبنان، قد يحاول النظام تصوير نفسه أنه قادر على ضمان الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي بمجرد أن يتدخّل ويمارس رعايته للتسويات. والأرجح أنّ حلفاءه اللبنانيين بدأوا عملية «استدعاء» مبرمجة له، لكي يمارس وساطته ويتدخّل في الأزمة. وقد تنجح هذه العملية بنسبة معينة. أمّا عودة لبنان إلى دائرة النفوذ السوري الذي كان، فتبدو مستحيلة.