Site icon IMLebanon

“مستنقع” الليطاني: “مسيو” أوبوار مرّ من هنا!

كتبت آمال خليل في “الاخبار”:

التفت «الأجانب» إلى أهمية نهر الليطاني مبكراً، فيما أعاره اللبنانيون اهتمامهم أخيراً… بعد الكارثة. استثمرت جمهورية الاستقلال موارد النهر في الري وتوليد الكهرباء، وشكّلت إطاراً هيكلياً لإدارتها عبر المصلحة الوطنية لنهر الليطاني منذ عام 1954. ومنذذاك، «كفى الله اللبنانيين شرّ الحفاظ» على هذا المورد الحيوي. عام 1994، استفاقت «الجمهورية الثانية» على أزمة تلوّثه. شكّلت الحكومة لجنة لمكافحة تلوث الليطاني وبحيرة القرعون… من دون أن تكافح شيئاً. زادت نسبة التلوث وتحوّل النهر الأهم في لبنان إلى «المجرور الأكبر» في البلد، إلى أن أقر مجلس النواب، عام 2016، الخطة الوطنية لتنظيف النهر وحماية حوضه بقيمة 1100 مليار ليرة.

اللافت أن يكون المحتلّون لهذه البلاد، على تعاقبهم، قد أدركوا حيويّة الليطاني وأهميته، فيما يبدو أن ذلك سقط، سهواً وعمداً، من إدراك «السكّان الأصليين». قبل «الاهتمام» الاسرائيلي بالنهر، طمعاً بمياهه، بوقت طويل، نجد في أرشيف «الانتداب الفرنسي» على لبنان، في تاريخ آب 1923 تحديداً، قراراً موقّعاً باسم وكيل «حاكم لبنان الكبير» أنطوان بريفا أوبوار، وفيه أنّه: «لما كان الليطاني يجري بالقرب من طريق بيروت – الشام في البقاع، معرضاً لحوادث فيضان ينجم عنها طغيان المياه على مساحة ألف هكتار من الأراضي القابلة للحراثة، وبناء على الطلب المقدم من أهالي البقاع في تاريخ 11 تشرين الأول 1921، ونظراً للضرورة الماسة، ولأجل الشروع في الأعمال التمهيدية الواقية طغيان مياه الليطاني، فإنّه يجب على أصحاب الأملاك الكائنة على ضفتي النهر ان يقطعوا ويقتلعوا، في مهلة شهر، جميع الأشجار التي تحدث نتوءاً على جرفي مجرى النهر فتعوق جريانه». الشجر، على أهميته، ليس أهم من جريان الليطاني.

بلا ماء لن يبقى شيء على قيد الحياة. هذا ما أدركه «المسيو» أوبوار قبل نحو قرن من الزمن. كان لافتاً أن الوكيل الفرنسي عزا قراره، في واحد من الأسباب، إلى «الطلب المقدم من أهالي البقاع». اليوم يمكن لأهالي البقاع أن يُبحّ صوتهم من غير أن يُسمع لهم. مؤلمة تلك المقارنة. لا يكتفي أوبوار بالطلب، بل يحذر في قراره أصحاب الأملاك من أن يهملوا إجراء ما ذكر بعد مضي المهلة المعينة. في القرار المذكور تقوم السُلطة بإجراء ما يلزم على نفقتها بداية، لكن ما ينفق إنما يبذل على سبيل التسليف قبل أن يستوفى من أصحاب الأملاك. يبدو هذا أقرب إلى شعار «من يُلوّث يَدفع» (الذي عاد وظهر في قانون المياه عام 2018). كان ذلك قبل نحو مئة سنة، حيث لم يكن عدد المقيمين قد تضخّم كما اليوم، ولم تكن ملوّثاتهم وعوائقهم و«أملاكهم» عند النهر كما اليوم، ومع ذلك كان الأمر يستدعي تدخّل «الحاكم». قضى ذاك القرار، بحسب النص، أنّ تحسين مجرى المياه يكون بـ«تصحيح منحدر مجرى النهر، وزيادة قسم المجرى الذي تغمره المياه وإزالة التعاريج، وإنشاء قطع جديدة لتقويم المجرى». طبعاً، هذا ليس مدحاً للاستعمار أو الانتداب أو الاحتلال، بل هي إشارة إلى أهمية الليطاني، النهر الشريان الذي يعبر الأراضي اللبنانية.

في تشرين الثاني الماضي، أرسل رئيس المصلحة الوطنية لنهر الليطاني سامي علوية كتابين إلى كل من محافظي البقاع وبعلبك – الهرمل. تضمنا قراراً بـ«تكليف البلديات إزالة الردميات والعوائق والنفايات الواقعة في مجرى نهر الليطاني، قبل بدء موسم الأمطار لتفادي فيضان النهر».

في الماضي، زمن الانتداب، كان هناك «مسيو» أوبوار واحد، وكان حاكماً فعلاً، وبالتالي كانت تسري قراراته، أمّا اليوم فكل زعيم هو «مسيو» على نفاياته، عبر المصانع الملوّثة التي يحميها ويغطيها، فضلاً عن البلديّات المحسوبة عليه. تحول الليطاني إلى مجرور في مقاطع كثيرة بسبب الإهمال في تطبيق قرارات مماثلة صدرت سابقاً. المعنيون بالتنفيذ لم يقوموا بتحسين مجرى النهر، بل على العكس، اعتدوا على المجرى بحفر آبار عشوائية وبتغيير المجرى واستحداث سدود صخرية وترابية للري أو للديكور. اليوم، في دولة لبنان «الصغير» لم تُزَل التعديات ولم يرتدع المخالفون. فاض الليطاني بعد العاصفة الأخيرة على بلدات عدة في البقاع. فيضان اختلط بين مياه الأمطار ومياه الصرف الصحي التي تصب في النهر، ومعها النفايات الصلبة من المكبات العشوائية على ضفافه.