Site icon IMLebanon

حملة تطهير و”سحق معارضين”: تركيا تنزف نخباً وثروات

كنب ماجد طه في صحيفة “الاخبار”:

إسطنبول | تضع سياسة رجب طيب أردوغان تركيا أمام مناخ مثير لليأس والإحباط لدى شرائح من الشعب، يتصاعد لديها انعدام الثقة بمستقبل بلاد يرون أنها باتت على غير ما عرفوها. حملات القمع، التي اجتاحت مراكز القرار ومختلف الصروح الاجتماعية منذ ردّ الفعل على المحاولة الانقلابية في 2016، تسبّب اليوم أرقاماً غير مسبوقة لهجرة النخب الأكاديمية والثقافية، بموازاة هروب أصحاب الأعمال والثروات بحثاً عن أفق خاص لا يؤمنون بوجوده في تركيا الأردوغانية. وفي ظل بلوغ مؤشر هذه الهجرات عتبات قياسية، لا يقارب نظام أنقرة هؤلاء بالتخوين فحسب، بل بـ«هندسة اجتماعية» بديلة.

حافظ حزب «العدالة والتنمية»، برئاسة رجب طيب أردوغان، على مقاليد الحكم في الجمهورية التركية لمدة 17 عاماً، من خلال تقديم رؤية مركبة للناخبين الأتراك استندت إلى جوانب عديدة، كان أبرزها الحفاظ على النمو الاقتصادي ورفع مستويات المعيشة، إلى جانب إحياء فكرة «تركيا العظمى» في أذهان الناس ودفع الشعب إلى الشغف باستعادة أمجاد الماضي العثماني. بعد الانقلاب الفاشل في تموز 2016، شرع أردوغان في حملة قمع ساحقة، بحسب ما يصفها معارضون ومراقبون. وفي نهايات العام الماضي، دخلت البلاد في نفق أزمة اقتصادية ومالية حادة، فقدت الليرة على إثرها أكثر من ثلث قيمتها أمام الدولار، ما رفع معدل الديون في البلاد إلى درجة حرجة ألقت بظلالها على حياة الناس واستقرارهم. حملة «سحق المعارضين» التي أطلقها أردوغان بعد فشل الانقلاب، استهدفت أتراكاً في كل المجالات، تحت مسميات «الإرهاب» أو «تنظيم الخدمة» أو ما تسميه السلطات «تنظيم غولن»، نسبة إلى الداعية المعارض فتح الله غولن الموجود في الولايات المتحدة والمتّهم بتدبير الانقلاب. اليوم، يتحدث الجميع أن هذا المبرر بات الأسهل لاعتقال أي معارض في البلاد من دون اللجوء إلى القضاء، في ظل حالة الطوارئ. وأمام حالة انعدام الاستقرار السياسي والاقتصادي القائمة، فإن أعداد المغادرين من البلاد بقصد الهجرة آخذة في الارتفاع بأعداد كبيرة. رؤوس أموال، وخبرات، ومواهب، وأثرياء، هم على رأس قوائم المهاجرين في السنوات الأخيرة، وفقاً لإحصاءات الحكومة والمختصين.

هاجر أكثر من ربع مليون تركي في عام 2017 فقط

تقول المهاجرة غولجان قوتلوباي، المقيمة حالياً في فانكوفر الكندية، عن سبب هجرتها وأسرتها الصغيرة أنه «ليس لدي أدنى اهتمام بالموضوع السياسي»، وفق ما تشرح لـ«الأخبار»، لكن «السبب الرئيسي الذي دفعني إلى اتخاذ القرار هو محاولة الحصول على فرصة أفضل. وجدت أن الفرص في تركيا غير ممكنة في ظل عدم انتمائك إلى تيار معيّن أو أسرة ثرية معيّنة. من دون ذلك ستبقى تعمل في المستويات الدنيا، وإن امتلكت كل المؤهلات للعمل بشكل أفضل». وتتساءل: «لو كنت مكاني، هل ستبقى ترزح ضمن طبقات المسحوقين؟»، موضحة أنها تتلقى اتصالات هاتفية من أقربائها وأصدقائها والكثير من معارفها في تركيا، تستفسر منها عن آليات الخروج والتقدم إلى عمل أو هجرة في كندا. وتعلق على ذلك بشكل ساخر: «صرت أفكر في افتتاح مكتب هجرة استشاري، قد يكون استثماراً جيداً بالنسبة إلي هنا، الأتراك لا يودون البقاء في تركيا». السيد جودت أوزكين، الذي بات يقطن في دولة عربية، ويفضّل عدم ذكر كامل التفاصيل عن حياته الجديدة، يقول لـ«الأخبار»: «أعمل هنا في مشغلي الخاص لتصنيع الأحذية بشكل يدوي. أبيع القليل، صحيح أنني لا أجني الكثير هنا، ولو قمنا بعملية حسابية بسيطة لما أجنيه وما أنفقه فستكون إزمير مكان إقامتي الأول أفضل بالنسبة إلي، لكنني سئمت من توتر الحياة في تركيا». يقول ناشط حقوقي، طلب عدم الكشف عن هويته، إن أسباب اللجوء خارج البلاد كانت متعددة، وليس كل من تورط في الانقلاب الفاشل شعر أنه بحاجة إلى طلب اللجوء والحماية، بل إن الكثيرين ممن طلبوا اللجوء كانوا قد تضرروا من حملة تطهير طالت الآلاف من المعلمين والأكاديميين من وظائفهم بعد الانقلاب، بما في ذلك المئات الذين وقّعوا عريضة سلام تدعو الحكومة إلى وقف العمل العسكري في المدن الكردية والعودة إلى عملية السلام. ويستطرد بالقول: «لقد حاول الرئيس أردوغان أن يجعل تركيا أكثر تحفظاً وتديّناً، مركّزاً على طبقة وسطى متنامية ودائرة ضيقة من النخب الذين يؤمنون بشخصه بشكل خاص لنجاحهم الاقتصادي». ويحذّر عالم الرياضيات إيلكر بيربيل، الذي يواجه اتهامات على خلفية التوقيع على عريضة سلام مع الأكراد وترك تركيا لتولي منصب في جامعة «إراسموس» في روتردام في هولندا، في حديث إلى صحيفة «يني أكيت»، من أن البلاد كانت ولا تزال تفقد الكفاءات بشكل دائم. ويستشهد بمناخ الاستقطاب السياسي السائد للقول إن «الناس الذين يغادرون لا يرغبون في العودة، وهذا أمر لا بد أن يثير قلق تركيا»، مضيفاً: «لقد تلقّيت العديد من الرسائل من طلاب وأصدقاء يحاولون الخروج من تركيا، يطلبون المساعدة… هذا أمر مؤسف!».

 

ربع مليون… عام 2017

مليارات الدولارات هرّبت من تركيا خلال السنوات القليلة الماضية، خصوصاً بعد محاولة الانقلاب. وفقاً لمعهد الإحصاء التركي، هاجر أكثر من ربع مليون مواطن في عام 2017، بزيادة قدرها 42٪ عن عام 2016. ووفقاً لتقرير صادر عن بنك «أفراسيا»، 12 ألف مليونير تركي، على الأقل، أي نحو 12% من الطبقة الثرية في البلاد، نقلوا أصولهم، كلها أو بعضها، إلى خارج البلاد خلال عامي 2016 و2017. لكن أستاذ الاقتصاد في جامعة «إسطنبول»، آيدن كمال راغب، يعلّق بشكل متسامح على الأرقام الواردة في التقرير: «بشكل عام، الأسر المتوسطة الثراء أو من وضعت قدمها الأولى في الثراء حديثاً، وفي ظل الوضع السياسي القائم، تحاول تدشين شركاتها ونقل أعمالها إلى الخارج لتهيئة جيلها القادم لاستكمال المشوار». ويتابع: «هذا التفكير منطقي جداً وسليم، حتى وإن تحسن الوضع السياسي في البلاد ثانية، فإن الأمر لن يكون صعباً للعودة وتوسيع الأعمال في بلادهم الأصلية». في المقابل، يؤكد مدير الدراسات العابرة للوطنية في جامعة «ريجنت» في لندن، إبراهيم سيركجي، أن «هجرة العقول حقيقية»، موضحاً أن «تركيا شهدت موجات هجرة من الطلاب والمعلمين لم تألفها من قبل خلال السنوات الخمسين الماضية، لكن هذا النزوح يبدو كأنه إعادة ترتيب أكثر ديمومة للمجتمع، ويهدد بإعادة تركيا إلى عقود من الزمن». يعزو سيركجي، المتخصص في متابعة الهجرات التركية، ما يجري إلى أسباب كثيرة، منها الخوف من الاضطهاد السياسي والإرهاب، وانعدام الثقة المتعمق بالنظام القضائي وتعسف أحكامه، وتدهور مناخ سوق الأعمال الذي سادته المخاوف من تأثير مصالح رجال الأعمال الرئيسيين المشتركة مع أقطاب الحكومة بشكل غير مباشر لجرّ الاقتصاد نحو دائرة ضيقة. ويقول سيركجي، في مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، إنه «لسنا في وارد التهويل هنا، لدي حالات لأطباء وعلماء في مجالات هندسية متخصصة لا تملك تركيا الكثير منهم غادروا بسبب قلقهم البالغ في البلاد». لكن أستاذة التاريخ في جامعة «بيلغي»، البروفيسور غولهان بولوصي، تخالف سيركجي في بعض التفاصيل، وتقول: «دعنا لا نصف الأمر بشكل سوداوي إلى هذه الدرجة. الأمر لا شك خطير، لكن القمع ليس الدافع الأساسي للاعتقالات التي شنّتها الحكومة هنا، الدافع الرئيسي للاعتقالات هو المحاولة الانقلابية، إن كان ثمة استغلال للموقف من جانب الحكومة فهذا لا ينبغي أن ينسينا الجريمة الرئيسية». وتتابع في حديثها إلى «الأخبار»: «من المؤسف أن تركيا تخسر كل هذه الكفاءات النادرة والمتخصصة، ومن المؤسف أيضاً أنها تخسر رؤوس الأموال الكبيرة». لكن بولوصي تنبّه إلى سبب آخر، يضاف إلى مجموع الأسباب الآنف ذكرها، وهو أنه «للمرة الأولى منذ تأسيس الجمهورية قبل قرن تقريباً، بدأ كثيرون من الطبقة المالكة القديمة، وبالأخص النخبة العلمانية التي هيمنت على الحياة الثقافية والتجارية لتركيا لعقود، بالابتعاد، كونهم لم يطيقوا حقيقة أن أردوغان وحزبه استطاعوا هزيمتهم في كل الميادين في البلاد». وتؤكد أن موقفها هذا لا يعني أنها «متعاطفة مع الحزب الحاكم، بيد أن منافسيه خسروا كل ما بناه أسلافهم، لم يظهروا حتى مقاومة منظمة في ميادين المنافسة الثقافية والاقتصادية والشعبية»، ولذلك «لم يجد أردوغان منافساً قوياً، والمعارضة لم تقوَ على المواجهة».

 

جهد مدروس

يرى مدير شركة «كوندا» لاستطلاعات الرأي، بكير أغيردير، أن هروب رأس المال والموهبة هو «نتيجة جهد مدروس للسيد أردوغان لإجراء تحولات كبيرة على المجتمع». فعبر الإعانات والعقود المؤاتية، ساعدت الحكومة الكثير من الشركات الجديدة «الموالية» على الظهور، لتحل محل الشركات القديمة بسرعة. ويلفت أغيردير، في حديث إلى وكالة «فرانس برس»، إلى أن ثمة «نقلاً لرأس المال الجاري»، ملخّصاً كل ما يحدث بالقول «إنها الهندسة الاجتماعية والسياسية». من جانبه، يبدي إيرهان إيركوت، مؤسس جامعة «MEF» في إسطنبول التي تدرّس الابتكار وريادة الأعمال، اعتقاده بأن «الطلاب يشعرون باليأس والعجز. هم نشأوا في بيئة يحكمها أردوغان منذ نعومة أظافرهم حتى الآن. التغيير الجزئي والتدوير لبعض المناصب التي يقوم بها أردوغان كحيلة سخيفة لا يمكنها أن تنطلي عليهم»، مشدداً على أن «هذه التوليفة الحكومية الوحيدة التي عايشوها في حياتهم، بضعة تغييرات هنا وهناك، لا يمكن لها تغيير السياق كاملاً، وهم يعرفون أن لا إمكانية لاحتمالات أخرى تحت مظلة هذا النظام».

الجدير ذكره أنه في نيسان/ أبريل الماضي، وصف أردوغان رجال الأعمال الذين نقلوا أصولهم إلى الخارج بـ«الخونة»، قائلاً: «أعذرونا، نحن لا نسامح… إن أيادي أمتنا ستتشبث بأطواقها في هذا العالم وفي الآخرة»، مشدداً على أنه «لا يمكن البتة أن يكون لهذا الأمر أي تفسير». وقد جاءت تعليقات أردوغان وسط قيام أكبر الشركات في تركيا بتحويل الرساميل إلى الخارج بوجود مخاوف من أنّها قد تتعرض للاستهداف خلال فترة «القمع» التي تلت الانقلاب أو بسبب بدء انكماش الاقتصاد المحلي. من بين هذه الشركات، عملاق الأغذية التركية «يلديز» (المساهمة في «أولكر») التي واجهت حملة ضاغطة على وسائل التواصل الاجتماعي لكونها مرتبطة بحركة غولن، بحسب وصف نشطاء، وهو ما نفته الشركة في بيان توضيحي. بعد ذلك بفترة قصيرة، أعادت «يلديز» جدولة 7 مليارات دولار من الديون، وباعت حصصها من مصانع البسكويت التركي الرئيسي «أولكر» إلى شركتها القابضة في لندن، فأبعدت بشكل أساسي معظم ملكية العائلة من «أولكر» عن المحاكم التركية.

 

قفز عدد الأتراك المتقدمين إلى طلب اللجوء في جميع أنحاء العالم من حوالى 10 آلاف طلب في السنوات الأربع التي سبقت المحاولة الانقلابية، إلى أكثر من 33 ألف طلب في عام 2017. ووفقاً لمعهد الإحصاء التركي، هاجر أكثر من ربع مليون تركي في عام 2017 (صدر هذا التقرير عن المعهد قبل أسابيع فيما لم يصدر بعد تقرير 2018)، بزيادة قدرها 42٪ عن عام 2016، عندما غادر البلاد نحو 178 ألف مواطن. وسنوياً، يتقدم آلاف الأتراك بطلبات للحصول على تأشيرات عمل في بريطانيا أو برامج التأشيرات الذهبية في اليونان والبرتغال وإسبانيا، والتي تمنح المهاجرين الإقامة إذا قاموا بشراء عقارات بمستوى معين، كما تضاعفت طلبات اللجوء في أوروبا من قبل الأتراك في السنوات الثلاث الأخيرة. وطبقاً لتقرير نشرته «ذي غارديان» البريطانية، فإن نحو 10 آلاف تركي استفادوا من مزايا تأشيرات العمل للانتقال إلى بريطانيا في السنوات القليلة الماضية، مع ملاحظة حدوث قفزة حادة في عدد الطلبات منذ بداية عام 2016، حيث وصلت إلى ضعف عدد الطلبات التي تم تقديمها في الفترة من عام 2004 إلى عام 2015، كما تضاعفت طلبات المواطنين الأتراك للحصول على اللجوء السياسي في بريطانيا ثلاث مرات في الأشهر الستة التي تلت المحاولة الانقلابية، و6 أضعاف بين الأتراك المتقدمين بطلب اللجوء إلى ألمانيا، وفقاً للبيانات الإحصائية والأرقام الصادرة عن وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.

 

هجرة الثروات… وأصحابها

ينقل الكثير من الأتراك أموالهم إلى الخارج. فقد قام ما لا يقل عن 12 ألفاً من أصحاب الملايين في البلاد بنقل أصول ثرواتهم المالية إلى خارج البلاد في عامي 2016 و2017، وفقاً لتقرير الهجرة العالمي السنوي الصادر عن بنك «أفراسيا» (البنك الأفريقي الآسيوي). ويفيد التقرير بأن 12 ألف مليونير تركي، على الأقل، أي حوالى 12% من الطبقة الثرية في البلاد، نقلوا أصولهم، كلها أو بعضها، إلى خارج البلاد خلال عامي 2016 و2017. ووفقاً للتقرير، فقد انتقل معظمهم إلى أوروبا أو الإمارات العربية المتحدة. وقد تمّ إدراج مدينة إسطنبول، وهي مركز الأعمال الأول في تركيا وعاصمتها الاقتصادية ومركز الثقل السكاني، ضمن سبع مدن عالمية تشهد هجرة الأثرياء. ويرد في التقرير: «إذا نظر المرء إلى أي انهيار كبير للدولة عبر التاريخ، فهو يكون مسبوقاً عادة بهجرة الأشخاص الأثرياء بعيداً عن تلك الدولة».