كتبت صحيفة “الأنباء” الكويتية: في فترة ما بعد الانتخابات النيابية التي عمقت المناخات الطائفية بقانونها الجديد «النسبي التفضيلي»، لوحظ في مجال رصد تطورات الوضع السياسي أمران:
الأول: ارتفاع حدة التوترات والانقسامات داخل الطوائف، وليس فقط فيما بينها. هذا ما حدث في الطائفة المارونية مع انهيار اتفاق معراب. هذا ما حدث في الطائفة الدرزية مع ولوجها مرحلة انقسام داخلي غير مسبوق. هذا ما حدث في الطائفة السنية التي شهدت أول تغيير في الخارطة النيابية منذ العام ٢٠٠٥، ونشوء تجمع موال لحزب الله.
الثاني: ازدياد حدة الاصطفافات الطائفية بعد انتهاء مرحلة الانقسام السياسي الذي كان قائما في السنوات الماضية بين فريقي ٨ و١٤ آذار… اليوم ينعقد لقاء استثنائي درزي في فردان. امس التأم لقاء ماروني استثنائي في بكركي. قبل أيام شهدنا جلسة طارئة للمجلس الشيعي الأعلى على خلفية القمة العربية ودعوة ليبيا وقضية الإمام الصدر. قبل أسابيع كان المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى (السني) يعقد أكثر من اجتماع دعما لدور وصلاحيات رئاسة الحكومة واتفاق الطائف… هناك عند كل طائفة نوع من «الانكفاء على الذات» والعودة الى ترتيب البيت الداخلي وإعادة نظر في الأولويات… ولكن كل الطوائف تساورها بنسب متفاوتة مشاعر القلق وهواجس المرحلة المقبلة ومما هو آت، في ضوء هذا التشابك الحاصل بين أزمة داخلية، حكومية سياسية واقتصادية مالية، وصراعات المنطقة.
المسيحيون ليسوا أقل قلقا واضطرابا من غيرهم. المفارقة هنا أنه في ظل مرحلة عنوانها «القوة» (الرئيس القوي، تكتل لبنان القوي، الجمهورية القوية)، تنتابهم حالة ضعف ويكادون يعودون الى مرحلة الإحباط التي يفترض أنها ولت بعد عودتهم الى الدولة والحكم من الباب الواسع. وهذا المناخ المعنوي النفسي غير المطابق للواقع السياسي الراهن، ناجم عن أسباب ومستجدات كثيرة منها:
ـ الأزمة الاقتصادية والضائقة المالية التي باتت خطرا محدقا وسببا أساسيا من أسباب تبدل المزاج الشعبي العام والهجرة الواسعة وفقدان فرص العمل وإفلاس الشركات.
ـ تجدد الانقسامات والتوترات المسيحية ونشوء سياسة محاور وتحالفات على خلفية معركة رئاسة الجمهورية المقبلة التي فتحت باكرا وقبل أوانها.
ـ عدم تشكيل حكومة جديدة كانت منتظرة سريعا وبقوة دفع الانتخابات النيابية والزخم الذي أحدثته. خصوصا أن أزمة الحكومة تترافق مع إشارات رئاسية مقلقة تعكس عمق الأزمة، عندما يشير الرئيس ميشال عون الى «تقاليد جديدة يجري فرضها، وخلاف في الخيارات السياسية، وعودة التأثيرات الإقليمية».
ـ القضايا والمشاكل الكبرى التي تحمل في طياتها مخاطر وجودية واستراتيجية وتأثيرات على التوازنات الديموغرافية والسياسية والطائفية، وأولها ما يتصل بأزمة النازحين السوريين التي لا أفق لحلها، والمضافة الى مشكلة الوجود الفلسطيني المسلح، من دون إغفال مشكلة التعايش وتنظيم العلاقة بين حزب الله والدولة اللبنانية، وأيضا من دون إهمال أزمة النظام اللبناني العصي على الإصلاح والتطوير والمتميز بحالة فساد متفش في جسم الدولة اللبنانية واستنزف عافيتها وإمكاناتها.
الدعوة الى لقاء ماروني استثنائي في ظل هذا الوضع الخطير تبدو مبررة ومشروعة. فالبطريرك الراعي على بينة من كل ذلك ومنزعج من أمور وتفاصيل كبيرة، ولديه تقارير ومعلومات «مقلقة» بالأرقام والوقائع. ولا يتقبل ولا يتفهم عدم تشكيل حكومة حتى الآن وبروز خطر حدوث انهيار في مؤسسات الدولة وفي الوضع الاقتصادي وفي معادلة النظام… وهو أسر للرئيس عون بمجمل هذه الهواجس من دون أن يلقى التطمينات الكافية، لا بل فوجئ وصدم بأن رئيس الجمهورية يشاطره الرأي والشكوى والانزعاج مما هو حاصل، وهذا ما جعل البطريرك الراعي يشعر بأن الرئيس عون بحاجة الى دعم والتفاف سياسي من حوله ومن داخل بيئته وطائفته أولا لتعزيز موقعه وموقفه في موضوع تشكيل الحكومة وإدارة الدولة، وأن المسيحيين بحاجة الى استعادة وحدتهم وتماسكهم كشرط أول للتعاطي مع تحديات المرحلة وما يحاك من مشاريع وخطط مهددة لمستقبلهم في لبنان والمنطقة. انعقاد اجتماع بكركي مهم في حد ذاته كمؤشر الى قدرة قادة الموارنة على تجاوز خلافاتهم والالتقاء تحت سقف الخطر الواحد، وكمؤشر الى قدرة البطريرك الراعي على الجمع والاستقطاب. وظهر واضحا دعم اللقاء الاستثنائي للرئيس عون في البيان الختامي، حيث رفض المجتمعون كل ما من شأنه المس بالمؤسسات والصلاحيات وفي مقدمتها رئاسة الجمهورية، معلنين التمسك باستقلالية القرار الوطني ومصلحة لبنان العليا في صياغة علاقاته الخارجية. وأكدوا الحرص على العيش المشترك والتمسك بسيادة الدولة واحترام الدستور، معربين عن الرفض لكل الأساليب التي تهدد بالانقلاب على الدولة او السطو على قرارها.
ودعوا الى ضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة المنتجة والتعاون مع الرئيس ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري.