برزت الصعوبات المالية التي يواجهها لبنان إلى دائرة الضوء من خلال اضطرابات في الأسواق، حيث عانت سندات سيادية لبنانية مقومة بالدولار من بيع مكثف، في أعقاب تعليقات من وزير المالية حول الدين العام للبلاد حسب وكالة “رويترز”.
وتعافت السندات هذا الأسبوع بفعل تأكيدات أن الحكومة لا تخطط ”على الإطلاق“ لإعادة هيكلة الدين، وأنها ملتزمة بدفع استحقاقات الدين والفائدة في مواعيد محددة مسبقًا.
لكن هذا التطور زاد من حدة الجدل الدائر حول استدامة الدين اللبناني، بعد تحذيرات من سياسيين وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بشأن الأوضاع الاقتصادية والمالية في بلد يعاني منذ سنوات من نمو اقتصادي منخفض.
وأدت الانقسامات السياسية في لبنان إلى سنوات من الشلل السياسي، وعرقلت إصلاحات تحتاجها البلاد لدعم ثقة المستثمرين. فبعد ثمانية أشهر من الانتخابات، لا يزال السياسيون غير قادرين على تشكيل حكومة جديدة.
ما هي المشكلات؟
لبنان من بين الدول الأعلى مديونية في العالم قياسًا إلى حجم اقتصاده، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى خدمة الدين القائم وإنفاق حكومي مرتفع. ويبلغ الدين العام للبنان نحو 150% من الناتج المحلي الإجمالي.
وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن التحويلات المالية إلى شركة كهرباء لبنان بمفردها بلغت 3.8% في المتوسط من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة من 2008 إلى 2017. وأدت زيادة أجور العاملين في القطاع العام في 2017 وأسعار فائدة مرتفعة إلى المزيد من الضغوط على عجز الميزانية.
ولدى لبنان أيضًا عجز في ميزان المعاملات الجارية نظرًا لأن الواردات تتجاوز الصادرات بفارق كبير.
ويعتمد تمويل العجزين على التحويلات النقدية من اللبنانيين المقيمين في الخارج.
لكن التساؤلات حول هذا النموذج كثرت
وقال بنك “غولدمان ساكس” في تحليل في 3 كانون الأول: ”يأتي في قلب المخاوف التباطؤ الأخير في تدفقات التحويلات/الودائع، التي عادةً ما تموّل جزءًا كبيرًا (إن لم يكن كل) من الاحتياجات التمويلية للبنان“.
وقال البنك الدولي، في تقرير في تشرين الأول، إن لبنان منكشف على مخاطر كبيرة في إعادة التمويل. وأضاف قائلًا: ”أصبح من الصعب اجتذاب أموال كافية، وبصفة خاصة ودائع، لتمويل عجز كبير في الميزانية وميزان المعاملات الجارية، في ضوء تباطؤ نمو الودائع“.
وينظر خبراء اقتصاديون إلى انخفاض أسعار النفط كسبب رئيسي للتباطؤ، حيث يعمل كثير من اللبنانيين في الدول العربية الخليجية المنتجة للنفط. ويُشار أيضًا إلى عدم الاستقرار السياسي والنمو المنخفض في لبنان كعوامل.
وتراجعت معدلات النمو الاقتصادي إلى ما بين 1 إلى 2%، من 8 إلى 10% في السنوات الأربع التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية في سوريا في 2011.
مدى خطورة الوضع
قال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الشهر الماضي إن قطاع البنوك لديه القدرة على تمويل الدين الخارجي والمحلي للبلاد في 2019. ويبلغ صافي الأصول الأجنبية للبنك المركزي نحو 40 مليار دولار.
وأثبت النظام المالي مرونة في تجاوز أزمات سياسية واغتيالات والحرب. وربط الليرة اللبنانية بالدولار مستقر لأكثر من 20 عامًا.
وفي غياب حكومة فعّالة، غالبًا ما يقوم البنك المركزي بالحفاظ على الاستقرار، مستخدمًا حزمة محفّزات وعمليات مالية غير تقليدية، مستفيدًا من إيداعات كبيرة للمغتربين في البنوك.
ولكن منذ 2016، دفع تباطؤ التدفقات من غير المقيمين البنك المركزي للشروع في ”هندسة مالية“ لاجتذاب المزيد من الدولارات إلى احتياطياته.
وأشاد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بالبنك المركزي عن دوره الحيوي. لكن تقرير البنك الدولي في تشرين الأول أشار إلى أن بعض أدوات المركزي أصبحت أقل فعالية، وأن المخاطر التي يواجهها لبنان تزايدت بشكل حاد.
والثقة مهمة لتشجيع التدفقات التي يعتمد عليها النظام. وسيتعزز ذلك إذا تم الاتفاق على حكومة جديدة، وتحركت بسرعة في تنفيذ إصلاحات في قطاع الكهرباء.
وربما يطلق ذلك تمويلًا بنحو 11 مليار دولار تعهدت بتقديمه دول ومؤسسات أجنبية العام الماضي، في برنامج رأسمالي للاستثمار.
ما هو تأثير حزب الله في ذلك؟
يأتي نفوذ “حزب الله” في قلب التوتر بين لبنان ودول خليجية مثل السعودية، التي دعمت بيروت في السابق لكنها حوّلت اهتمامها إلى مناطق أخرى في السنوات الماضية.
وأشار “غولدمان ساكس” إلى أن أحد أسباب التباطؤ في نمو التحويلات والودائع يتمثل في ”الانخفاض المتوقع في احتمالات الدعم الخارجي في ضوء التوترات المتزايدة بين لبنان ودول الخليج الغنية بالنفط“.
وقال جيسون توفي من “كابيتال إيكونومكس”: ”حذّرنا لبعض الوقت من أن إذا حدث تصعيد جديد للتوترات مع دول الخليج أو إسرائيل، فربما يؤدي ذلك إلى فترة أخرى من هروب رؤوس الأموال يضع ضغوطًا على ربط العملة بالدولار“.
وشددت الولايات المتحدة العقوبات المالية على “حزب الله”، في إطار مسعاها الأوسع للتصدي لإيران. ويطبّق القطاع المصرفي اللبناني تلك الإجراءات، وتشريعات لمكافحة غسل الأموال.
وضغط لبنان على الولايات المتحدة في 2017 للموازنة بين موقفها الصارم من “حزب الله” والحاجة للحفاظ على الاستقرار المالي في البلاد. وبناءً على ذلك، جرى تغيير العقوبات بما يهدّئ المخاوف من ضرر اقتصادي كبير.
وقال توفي إن تطبيق مثل تلك الإجراءات ربما يضغط على بعض التدفقات إلى لبنان، رغم أن من الصعب معرفة إلى أي مدى.
هل تستطيع الحكومة العتيدة حل المشكلة؟
بمجرد أن يتمكن رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري من تشكيل الحكومة، سيتابع المستثمرون تنفيذ وعود لتقليص عجز الميزانية. لكن هناك مخاوف من أن الاعتبارات السياسية قد تعرقل الإصلاحات مجددًا.
وقالت وكالة “فيتش رايتنغز” للتصنيف الائتماني: ”اتفق اللبنانيون والمستثمرون الدوليون على الحاجة لتقليص عجز الميزانية، لكن لا توجد حتى الآن خطة ذات مصداقية وقابلة للتنفيذ لتحقيق ذلك، ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الحركية السياسية ستسمح بانضباط منسق للمالية العامة“.