كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:
في نهاية تشرين الثاني الماضي، بدت المؤشرات المالية غير مطمئنة مع تراجع احتياطات مصرف لبنان بقيمة 2 مليار دولار في شهر واحد، بالتزامن مع معدّل نموّ للودائع يقارب الصفر. هذا الأمر يشير إلى تسارع وتيرة نزف العملات الأجنبية التي يحتاجها النموذج الاقتصادي اللبناني للاستمرار، وقد يمهّد لتدابير أكثر قساوة في التعاطي مع التدفقات المالية بالعملات الأجنبية. أما الكلام عن معدل نموّ «إيجابي» للودائع، فهو عبارة عن زوبعة في فنجان!
يوم الأربعاء الماضي، قال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في افتتاح منتدى القطاع الخاص العربي، إن الودائع المصرفية نمت في 2018 بمعدل 3٫5%، مشيراً إلى أن «الارتفاع كان بالودائع بالعملات الأجنبية، بينما بقيت الودائع بالليرة اللبنانية على نفس المستوى، ما رفع الدولرة إلى 70%».
هذا التصريح يستدعي الكثير من التدقيق. للوهلة الأولى، يظهر أن التدفقات الرأسمالية بالعملات الأجنبية كانت إيجابية على مدار السنة الماضية، وأن نتيجتها انعكست في معدل نموّ الودائع، وخصوصاً الودائع بالعملات الأجنبية، ملمّحاً إلى أن هذه النتيجة تحققت بفضل التدابير والإجراءات والعمليات المالية التي ينفّذها مصرف لبنان.
«بطولة» مصرف لبنان هذه ليست دقيقة، فضلاً عن أنها مكلفة جداً على الخزينة العامة، فهي تحقق للمصارف أرباحاً طائلة. كذلك تزعم هذه النتيجة أن مصرف لبنان تمكّن من عزل التأثيرات السياسية الناجمة عن عدم تشكيل الحكومة منذ 8 أشهر وعن التجاذبات السياسية المتواصلة بين الأطراف السياسية. ففي المقابل، ثمة وقائع وإحصاءات تظهر صورة مغايرة تماماً. ففي الأشهر الـ11 الأولى من السنة الماضية، أي ما بين كانون الثاني 2018 وتشرين الثاني 2018، ازدادت معدلات الفوائد المثقلة على الودائع بالدولار من 4.42% إلى 5.48%، وهي كانت تبلغ 3.96% في كانون الثاني 2017. أما الفوائد المثقلة على الودائع بالليرة فقد ازدادت من 7,01% إلى 8.74%، وهي كانت 5.91% في كانون الثاني 2017.
ببساطة، يمكن الجزم بأن معدلات نموّ الودائع التي يزعم سلامة تحقيقها، أقلّ من أسعار الفوائد الوسطية المثقلة على مجموع محفظة الودائع، علماً بأن الفوائد الفعلية على المبالغ التي يجري توظيفها اليوم في القطاع المصرفي لا تقلّ عن 8% على الدولار، ولا تقلّ عن 11% على الليرة. وهذا يعني أن نموّ الودائع الفعلي كان سلبياً، وبالتأكيد كان هناك هروب للودائع وتحويلات إلى الخارج يساوي الفرق بين معدلات النمو التي أعلنها سلامة وبين معدلات أسعار الفوائد على الدولار، أي ما لا يقلّ عن 1.98% من الودائع بالدولار، وهو ما يوازي 2.6 مليار دولار.
وفي التفاصيل، تشير الإحصاءات المنشورة على موقع مصرف لبنان إلى أن معدّل نمو الودائع بلغ ذروته في أيلول مسجّلاً 2.33%، قبل أن يعود إلى الانخفاض ليبلغ 1.94% في تشرين الأول، و1.9% في تشرين الثاني. الودائع كانت في كانون الثاني 168.8 مليار دولار ثم ارتفعت إلى 172.7 مليار دولار في أيلول، وانخفضت إلى 172.1 مليار دولار في تشرين الأول، و172.07 مليار دولار في تشرين الثاني.
باختصار، لم يكن هناك أي نموّ للودائع، بل كان هناك انسحاب لها خلافاً لما يقوله سلامة. النموّ التلقائي للودائع، نتيجة الفوائد، يبلغ 9.5 مليارات دولار، فيما نسبة النموّ المسجّلة حتى تشرين الثاني تبلغ 1.9%، أي ما قيمته 3.25 مليارات دولار. وإذا احتسبنا تصريح سلامة عن معدل نموّ الودائع الذي بلغ 3.5% في نهاية السنة الماضية، فإن الودائع التي دخلت إلى لبنان خلال كانون الأول الماضي فقط تفوق 6.2 مليارات دولار. وبهذا المعنى يصبح ارتفاع دولرة الودائع من 68.7% في تشرين الأول إلى 69.11% مبرراً، إذ إن حجم الودائع بالدولار يبلغ ضعفي حجم الودائع بالليرة وقيمة الفائدة عليها تبرّر ارتفاع الدولرة، فضلاً عن أن السوق يشهد طلبات متزايدة للتحويل من الليرة إلى الدولار.
لا شكّ في أن الزعم بازدياد الودائع بهذه القيمة في شهر كانون الأول مبالغ فيه إن لم يكن متلاعباً به. فعلى الرغم من أن بعض المصارف تجري عمليات تجميل لميزانياتها في الشهر الأخير من السنة من أجل نفخ أرقامها عبر استقطاب ودائع ظرفية ومؤقتة أو عبر سحب ودائعها من الخارج إلى لبنان لفترة قصيرة، إلا أنه كانت هناك شبه استحالة في تحقيق هذه الزيادة الكبيرة في الودائع في كانون الأول، في ظل الظروف السلبية الناتجة من صعوبات تشكيل الحكومة والسجال السياسي حولها، وخصوصاً في الأسبوع الأخير من عام 2018، فضلاً عن اضمحلال الثقة بلبنان بعد انتشار الفساد على مستوى واسع.
هذه النتيجة تنسجم مع مؤشّرين أساسيين:
– تدني احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية في شهر تشرين الثاني بقيمة مليارَي دولار لتصبح 40.8 ملياراً مقارنة بـ 42.9 مليار دولار في كانون الثاني 2018. كذلك فإن هذه الاحتياطات سجّلت تراجعاً كبيراً بين شهري تشرين الأول وتشرين الثاني من عام 2018 بقيمة 2.271 مليار دولار، أي إن هذه الاحتياطات كانت تتذبذب على مدار السنة، وقد بلغت أقصى سقف لها في أيار 2018 مسجّلة 45.28 مليار دولار. مذّاك، فقدت الاحتياطات 4.39 مليارات دولار، ما يعني أن مصرف لبنان تدخّل بائعاً للدولار بقيمة 4.39 مليارات دولار بين أيار وتشرين الثاني واستنزف هذا المبالغ من احتياطاته بالعملات الأجنبية.
– تسجيل ميزان المدفوعات الذي يعبّر عن صافي حركة دخول وخروج الأموال من لبنان وإليه عجزاً بقيمة 4 مليارات دولار في نهاية تشرين الثاني 2018. فهذا يعني أن الأموال التي خرجت من لبنان أكبر من تلك التي دخلت بقيمة 4 مليارات دولار. في أدنى الاحتمالات، هذا يعني أن حجم الأموال التي خرجت من لبنان تفوق 5 مليارات دولار!
رغم كل ذلك، تسجّل الميزانية المجمعة للمصارف تضخماً في أصولها بقيمة 23.9 مليار دولار. ليس غريباً أن يكون هذا التضخّم مترافقاً مع ارتفاع في قيمة الأموال التي أقرضها مصرف لبنان للمصارف من 13.4 مليار دولار إلى 30.7 مليار دولار. وليس غريباً أن تكون ودائع المصارف لدى مصرف لبنان قد زادت بقيمة 21.9 مليار دولار. فمن الثابت أن معظم هذا التضخّم ناتج من الهندسات المالية التي يجريها مصرف لبنان مع المصارف. فهي تودع لديه مبالغ بالدولار بفائدة وسطية تبلغ 5%، وتقترض منه ما يساوي 125% من هذه المبالغ بفائدة 2%، ثم تودعها لديه بفائدة تفوق 12% وتحقق أرباحاً عليها تتجاوز 15%.
هناك جزء بسيط من هذا التورّم في ميزانيات المصارف ناجم عن التسديد المسبق للقروض والتسليفات للقطاع الخاص، إذ انخفضت قروض المقيمين بقيمة 1.125 مليار دولار، وانخفضت قيمة قروض غير المقيمين بنحو 1.4 مليار دولار (الجزء الأكبر منها بالليرة اللبنانية).