IMLebanon

هالة العولمة تفقد وهجها في دافوس

هيمنت على مناخ منتدى دافوس 2019 بوضوح المناوشات التجارية وتصاعد التيارات الشعبوية وتباطؤ الاقتصاد العالمي. وعكست الآراء والأفكار التي شهدتها فعاليات المؤتمر، الذي يحضره نحو ثلاثة آلاف من رجال الأعمال والمصرفيين والمسؤولين السياسيين إضافة إلى ناشطين معارضين، إلى أي حد يشهد العالم انقسامات واختلافات عميقة في كيفية التعاطي مع هذه الأزمات التي يتعرض لها العالم.

تجلى هذا الانقسام في صورة واضحة خلال دفاع قادة في العالم على غرار المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الحكومة اليابانية شينزو آبي ونائب الرئيس الصيني وانغ كيشان، عن المقاربة متعددة الأطراف التقليدية في مواجهة تنامي التيارات الشعبوية وأيضا الانتقادات التي يوجهها ناشطون عبر العالم للنخب، كما السياسات الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب التي أصبحت تغرد خارج المنظومة العالمية التقليدية.

وسعى رئيس حكومة اليابان، الذي ترأس بلاده هذا العام مجموعة العشرين، إلى اغتنام الفرصة “لاستعادة التفاؤل”، في وقت تهيمن فيه على مناخ المنتدى بوضوح المناوشات التجارية وتصاعد التيارات الشعبوية وتباطؤ الاقتصاد العالمي. وقال آبي في كلمته للمنتدى “أدعو الجميع إلى إنعاش الثقة في نظام التجارة العالمية” معتبرا أن على أوروبا واليابان والولايات المتحدة “توحيد جهودها” لمراجعة قواعد التبادل الحر.

وبعده دافعت ميركل بشكل منهجي عن المقاربة متعددة الأطراف التي يندد بها قادة التيارات الشعبوية الممثلون في دافوس برئيس البرازيل جاير بولسونارو. وألغى هذا الأخير مؤتمرا صحافيا كان مقررا الخميس مفضلا “الراحة” نظرا إلى برنامجه الحافل، بحسب مصدر في الرئاسة البرازيلية.

وشددت المستشارة الألمانية على ضرورة إصلاح المنظمات الدولية الكبرى في ظل تغير موازين القوى في العالم. وقالت ميركل “هناك في العالم تيار يقول سأهتم أولا بمصالحي الخاصة وفي النهاية سيكون العالم بخير. أشكك كثيرا في ذلك”.

إزاء الفراغ الذي خلفه غياب نجمي دافوس العام الماضي الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تدور أسئلة أكثر من المعتاد عن جدوى هذا المنتدى في عالم يزداد انقساما

 

وترى أن النظام الدولي يتعرض لضغوط، مشيرة إلى أن تأثير دول مثل الصين والهند على الاقتصاد العالمي صار أقوى كثيرا، كما رأت أنه يتعين على المنظمات الدولية أن تعكس الموازين الجديدة للقوى.

وتابعت ميركل حديثها قائلة إن مثل هذه الإصلاحات صعبة، لكنها ضرورية، محذرة من أنه في حال اتسم رد فعل نظام قائم بالبطء الشديد على التغييرات، فإن هذا الأمر يؤدي إلى تكوين مؤسسات موازية، وساقت مثالا على ذلك بنك الاستثمار الآسيوي الذي يعد قوة مقابلة للبنك الدولي.

وذهب في ذات السياق وانج قيشان نائب الرئيس الصيني الذي أكد أن السياسات الحمائية التجارية والانعزالية الشعبوية تهدد النظام الاقتصادي العالمي. وتساءل المسؤول الصيني “هل ستتقدم العولمة الاقتصادية، أم ستتراجع؟”.

وانتقد نائب الرئيس الصيني اتجاه المزيد من الدول إلى الانكفاء على الداخل، مع تزايد العقبات التي تواجه حركة التجارة والاستثمار في العالم، دون الإشارة مباشرة إلى النزاع التجاري الحالي بين بلاده والولايات المتحدة. لكنه أكد أن الصين والولايات المتحدة “لا غنى لإحداهما عن الأخرى”، في وقت تخوض فيه الدولتان مفاوضات تجارية تتضمن مخاطر.

إزاء الفراغ الذي خلفه غياب نجمي دافوس العام الماضي الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تدور أسئلة أكثر من المعتاد عن جدوى هذا المنتدى في عالم يزداد انقساما.

وقال آلان روميلاك رئيس شركة “مانباور فرنسا” إن “الأعمال عالمية لكن المشاكل الاجتماعية وحلولها محلية ووطنية”، مشيرا إلى أن هالة العولمة بدت “أقل توهجا” هذه السنة.

وقال مصرفي أوروبي “ليس هناك أي جديد، ولا شيء مستفزا. الاحترار المناخي والذكاء الاصطناعي ليسا من المسائل الجديدة، فما الذي يحدث فعليا؟” في العالم. أما الأمين العام لمنظمة العفو الدولية كومي نايدو فبدت لهجته أشد مرارة وهو يقول إن “المشهد في دافوس يشبه عملية صف أرائك على جسر تيتانيك في وقت تغرق فيه الإنسانية”.

وكان موضوع أزمة المناخ حاضرا بقوة خلال المؤتمر، وهو الملف الذي كان أولى القضايا العالمية التي كشفت عن توجهات الرئيس الأميركي دونالد ترامب حين تعهد بالانسحاب من اتفاق المناخ متسببا في غضب دولي تفاقم في خضم الحرب التجارية وموقف ترامب من حلف الناتو ومن حلفائه الأوروبيين وغير ذلك من القضايا التي يسير فيها ترامب عكس سير النظام العالمي القائم مرسخا توجها قوميا صاعدا يعكسه شعار “أميركا أولا”. وانتقد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، “هؤلاء الذين لا يؤمنون بالتعاون الدولي”. وشدد غوتيريش قائلا إنه “ليس كافيا التشهير بهؤلاء الذين يختلفون واعتبارهم قوميين أو شعبويين”، مشيرا إلى أن المشكلة أكثر جدية من القادة السياسيين الذين يبجلون المصالح الوطنية على الحلول الدولية، دون تسمية أي حكومة في أميركا الشمالية أو أوروبا.

قال غوتيريش إن المؤسسة السياسية والكيانات الدولية تركتا الناس في “حزام الصدأ” من العالم حيث اختفت صناعات في خضم العولمة والتطور التكنولوجي، مضيفا أن “قدرة الحكومات على تشكيل المجتمعات وحل المشكلات محدودة اليوم أكثر مما كانت في الماضي”.

سعت المملكة المتحدة لإشاعة الطمأنينة بشأن آثار بريكست. ورفعت لندن في دافوس، ملصقا عملاقا كتبت عليه عبارة “التبادل الحر أمر ممتاز” في خطوة أثارت العديد من التعاليق الساخرة في شوارع المنتجع السويسري

واعتبر الأمين العام للأمم المتحدة  أن العالم يشهد “تفككا” مثيرا للقلق وخصوصا بسبب العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين. وقال “إن العلاقات بين القوى الرئيسية العالمية، روسيا والولايات المتحدة والصين، لم يسبق أن شهدت الخلل الذي تشهده اليوم” متحدثا عن وضع “كارثي نوعا ما”. وأضاف أن “وضوح موازين القوى في تراجع” داعيا إلى الدفاع عن المقاربة المتعددة الطرف في العلاقات الدولية.

وتابع الأمين العام “نحن نعيش في عالم تزيد فيه المشاكل تفككا وكذلك الحلول” مؤكدا أنه “إذا لم يحصل توجه معاكس فنحن في طريقنا إلى كارثة”.

وقائلا إن التعاون الدولي الفعال ضروري من أجل السلام العالمي، في الوقت الذي ينتقل فيه العالم من نظام تهيمن عليه الولايات المتحدة إلى آخر تهيمن عليه روسيا والصين، مشيرا إلى الوضع في أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى عندما كانت المنطقة تتضمن عدة قوى، ولكنها كانت تفتقر إلى آلية للتعاون فيما بينها.

في المقابل، يرى مشاركون آخرون أن الأمر يحتاج إلى اتفاق وتوافق، قبل الحديث عن التعاون، ويحتاج أيضا إلى اعتراف بتغير الكثير من المعطيات التي كانت تؤطر النظام العالمي. وهذا الاعتراف يجب أن يشمل أولا مراجعة سياسة التدخل وفرض القوالب الحقوقية الجاهزة ومراعاة الاختلافات بين الدول وخصوصية كل دولة.

ويستدل المتابعون في هذا السياق بالموقف السعودي اللافت في دافوس، حيث بعثت الرياض بأحد أقوى وفودها على الإطلاق إلى المنتجع الجبلي السويسري، والذي طرح بكل صراحة وبشكل مباشر قضية مقتل الصحافي جمال خاشقجي وما أثارته من مزايدات سعت بعض الدول إلى استغلالها لتصفية حسابات مع السعودية.

بدا واضحا أن الرياض نجحت في طي صفحة هذه القضية، وطغى حضورها على الأصوات التي ما زالت تلوكها؛ حيث حشدت جداول أعمال كبار المسؤولين التنفيذيين لديها باجتماعات مع نظرائهم العالميين. وتمكن الحضور السعودي من اجتذاب رجال أعمال غربيين كبار إلى جلسة نقاش بعنوان “الخطوات القادمة للمملكة العربية السعودية”، حيث يجلس باتريك بويان الرئيس التنفيذي لشركة النفط الفرنسية العملاقة توتال وجيمس جورمان رئيس بنك مورجان ستانلي بجانب وزيري المالية والاقتصاد السعوديين.

وفي دافوس، هناك مؤشرات على أن هذا التوجه يؤتي أكله، حيث قال الرئيس السويسري أولي ماورر إن بلاده تمضي قدما، وتريد بناء علاقات قوية مع الرياض.

وقال ماورر لوكالة الأنباء السويسرية أس.دي.إي “تعاملنا منذ فترة طويلة مع قضية خاشقجي… اتفقنا على الاستمرار في الحوار المالي وتطبيع العلاقات مجددا”.

الذكاء الاصطناعي

إلى جانب قضايا المناخ والنظام العالمي، حضر الحديث عن الذكاء الاصطناعي بشكل كبير في كلمات المسؤولين المشاركين في مؤتمر دافوس، حيث أعربت أنجيلا ميركل عن اعتقادها بأن التعامل مع البيانات والذكاء الاصطناعي من التحديات الكبيرة في المستقبل، ورأت أنه “يجب تطوير المبادئ التوجيهية الأخلاقية الحاكمة لهذه المجالات وتطوير الاحتياطات الخاصة بحماية الحقوق الشخصية، وفي هذا الشأن، لا أرى أمامي بنية عالمية تتعامل مع هذه القضايا”.

وتذهب في ذات السياق سارة بنت يوسف الأميري، وزيرة الدولة الإماراتية للعلوم المتقدمة، مشيرة في كلمتها إلى أهمية تعزيز الدراسات والبحوث في مجالات العلوم المتقدمة والاستعانة بمخرجاتها كركيزة رئيسية في وضع سياسات حكومية هادفة إلى تحقيق مستقبل أفضل لشعوب العالم.