كتبت رلى موفّق في صحيفة “اللواء”:
لعل مقولة «في الحركة بركة» هي التي تنطبق على اتصالات الرئيس المكلف سعد الحريري في شأن تأليف الحكومة. الاقتناع السائد أن لا مستجدات مؤثرة يمكنها أن تُحدِث اختراقاً فعلياً يُخرج التشكيل من عنق الزجاجة. التعامل مع تحديد مواعيد جديدة للتشكيل لا يتم راهناً على أنه مؤشر انفراج بل يندرج في خانة محاولات امتصاص مناخات التلويح بتصعيد سياسي من هنا وهناك، وإعطاء جرعة من الأمل للناس المُحبطة والأسواق المهزوزة، والقول «لقد حاولنا».
وربما الأهم في حركة الحريري، هو دَفْع الجميع إلى التسليم بانسداد آفاق التأليف، ما يتطلب اللجوء إلى خيارات أخرى خارج خيار الاعتذار عن التأليف، إذ أن «الاعتذار» ليس حلاً يفتح نافذة للتأليف، ولا هو مطلب سياسي من القوة الفاعلة المتمثلة بـ «حزب الله» الذي يُدرك، أولاً، أن الحريري كرئيس للحكومة حاجة له في هذه المرحلة بالذات، حيث الحرب الإقليمية والدولية عليه تتقدّم. ويُدرك ثانياً، أن الظروف التي آلت في الماضي القريب إلى الإطاحة بالزعيم الأول للسنة من سدّة الرئاسة الثانية مغايرة لظروف اليوم، وأنه مع كل «أطروحات الانتصار» التي يتحدّث عنها وهزيمة المشروع الآخر، عليه أن يتعامل بحذر أكبر مع سياسة «الترهيب والترغيب» التي يبقى «سيّداً» في ملعبها، لكن أثمانها عليه قد أضحت أكبر ومحاذيرها أكثر!.
و«الاعتذار» ليس مطلباً ولا مصلحة لرئيس الجمهورية وفريقه، وإن سعى إلى الضغط والتلويح بالتصعيد كي تتألف «حكومة العهد الأولى» – حسب توصيفه – التي يُفترض أن يُكمل معها ما تبقّى من عهده، ويُسجّل من خلالها إنجازات لحقبة رئاسته. فمفاعيل التسوية الرئاسية بين عون – جبران باسيل وبين الحريري لا تزال سارية وقوية ومتماسكة وسط «توافقات» إدارة الدولة، بغض النظر عن نتائج تقييم طريقة عمل الدولة ومؤسساتها مع التجربة العونية.
الاتجاه السائد أن حركة الحريري لا يُظللها قرار كبير إقليمي ودولي بالتأليف حتى اللحظة، لكن من شأنها أن تفتح الباب واسعاً أمام تفعيل حكومة تصريف الأعمال، كخيار أو مخرج لا بد منه لوضع حد لمسار الانهيار المتسارع على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والمالية وملامستها الوضع النقدي.
وقد بدا جلياً في دردشة رئيس مجلس النواب نبيه بري مع الصحافيين المعتمدين في «عين التينة»، بعد لقائه الحريري، أنه يُرسل «إشارات هادئة» أو «خارطة طريق» لمرحلة ما بعد استمرار إخفاق التأليف، عنوانها تعويم الحكومة المستقيلة للتعامل مع الاستحقاقات المُعلّقة على وجود حكومة. وهو خيار سبق أن تمّ التسويق له على أنه خيار الضرورة أو الطارئ الاقتصادي – المالي الذي لا يقل أهمية عن الطارئ الأمني – العسكري، حتى لو كان يضرب الدستور ويُنشئ أعرافاً.
وتفعيل حكومة تصريف الأعمال شكّل مطلباً علنياً أميركياً، حين أعلن نائب وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل من بيروت أن بلاده «تُشجّع حكومة تصريف الأعمال على المضي قدماً حيث يمكنها، وخصوصاً على الصعيد الاقتصادي، لتجنب المزيد من الضرر والحفاظ على الثقة». وهو تشجيع يأتي في إطار الحفاظ على موازين القوى الراهنة في الحكومة، وعدم الانزلاق أكثر في توفير الغطاء الشرعي لتحكّم «حزب الله» ومن خلفه المحور الإيراني بمفاتيح القرار في البلاد.
ففيما معركة الحصول على «الثلث المعطل» في الحكومة يخوضها رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل على خلفية حسابات سياسية ترتبط بكيفية إدارة الحكم في حال حصول فراغ رئاسي، والاستحقاق الرئاسي المقبل، فإن ثمّة من يلفت إلى ضرورة قراءة المشهد الراهن من زاوية سعي «حزب الله» إلى ضمان «ثلث معطل» بيده، وليس فقط تعطيل «الثلث المعطل» بيد باسيل.
وحين تصل المسألة إلى العملية الحسابية لكيفية تأمين المحور الإيراني – السوري هذا «الثلث الضامن» له، يجري الحديث عن حصول «الحزب» وحلفائه الخالصين 9 مقاعد راهناً، موزعة بين الحصة الشيعية (المكوّنة من ستة وزراء) ووزير «تيّار المردة» ووديعتين ضمن حصة رئيس الجمهورية هما الوزير الدرزي الذي أضحى خارج عباءة وليد جنبلاط ووزير «سنّة 8 آذار»، الذي وإن جرى في الشكل اعتباره جزءاً من «كوتا» عون، فإنه سيكون منتمياً سياسياً لـ «محمور الممانعة»، فيما الرهان في الحسابات على أن للمحور وديعتين من الوزراء المسيحيين ضمن حصة «التيار الوطني»! فالتعامل مع وزيري جنبلاط، بكونهما في عداد ثلث «الثنائي – الشيعي» وحلفائه يحتاج إلى تدقيق، وما إذا كان جنبلاط قادراً على تحمّل تبعات استدارة سياسية في هذا الاتجاه.
فزعيم المختارة الذي استدعى دوره في جبل الدروز – بعد «غزوة داعش» في السويداء وتهجّمه المستمر على بشّار الأسد وتجرّوئه على إيران – هجوماً مباشراً من أمين عام «حزب الله» حسن نصرالله، وما تبعه من محاولات إحداث توترات في الجبل ومساعي خلق جبهة درزية مناوئة له من «حلفاء المحور»، يُدرك أن خياراته محدودة، لكن الذهاب مجدداً إلى «الانقلاب» على الخيار العربي له تبعاته أيضاً، وأفضل ما يمكنه اليوم انتهاج «سياسة الخيارات غير القاتلة» أو «اللاخيارات»، وتجنب استهداف الوصاية الإيرانية، على غرار ما كانت القاعدة المعتمدة في زمن الوصاية السورية
غير أنه كان لافتاً كلام جنبلاط بعد استقباله في كليمنصو الرئيس المكلف، إذ اعتبر أن «هناك قوّة تريد إضعاف البنية الاقتصادية والاجتماعية للبنان من أجل السيطرة على البلد، وأن هذه القوى استنهضت نفسها أخيراً لتهاجم الآخرين، وهؤلاء لا يهمّهم الوضع الاقتصادي في لبنان وبخاصة بعد تصنيف وكالة التصنيف الائتماني العالمية «موديز» للاقتصاد اللبناني». كلام وُضع على «مشرحة الممانعة» لفهم مراميه، ولا سيما أن منظري هذا المحور يرصدون الرجل الذي استهل هيل جولته من دارته، وما سيكون تأثيرها على مواقفه، وربما يتساءلون عمّا إذا كان لا يزال يمارس سياسة الانتظار على ضفة النهر لمرور جثث أعدائه!.