كتب وليد شرارة في صحيفة “الاخبار”:
بحسب معلومات واردة من باريس لـ«الأخبار»، لم تعد فرنسا تكتفي بدور ساعي البريد لنقل التهديدات الاسرائيلية إلى لبنان. لقاء الرئيسين الفرنسي والاسرائيلي خلال زيارة الأخير لها تخلله بحث في امكان تعاون ميداني، معلوماتي ولوجستي، بين البلدين في سوريا بعد الانسحاب الأميركي. تتعدد التفسيرات لخلفيات التباحث حول هذا الخيار المحتمل، لكن لا خلاف على أن تداعياته ستكون شديدة الخطورة على مستقبل الدور الفرنسي في الإقليم
لم تحظ زيارة الرئيس الصهيوني روفن ريفلين لفرنسا ولقاؤه مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون باهتمام وسائل الاعلام الفرنسية والمعلقين المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط. ولولا تصريحات ريفلين عن تصاعد «العداء للسامية» في فرنسا ولقاء مثير للسخرية مع بعض من تحاول الأوساط الصهيونية الفرنسية ابرازهم كممثلين للمسلمين في هذا البلد، على غرار الامام السابق لمسجد مدينة درانسي حسن شلغومي، ما كانت الزيارة لتحظى بأدنى تغطية اعلامية. المعلومات التي حصلت عليها «الأخبار» من باريس تفيد بأن الاجتماع الذي عقد بين ماكرون وريفلين، الذي رافقه في رحلته الى فرنسا قائد سلاح الطيران الاسرائيلي، الجنرال أميكام نوركين، تخللته شكاوى اسرائيلية من قيام حزب الله بتطوير صواريخ دقيقة في لبنان، وتباحث في امكانية تعاون البلدين في سوريا. ليس جديدا أن تحاول اسرائيل استخدام فرنسا كساعي بريد لنقل تهديداتها الى لبنان. فقد سبق لمسؤولين أمنيين فرنسيين نقل مثل هذه التهديدات أكثر من مرة في السنتين الماضيتين. الجديد هو التباحث في امكانية التعاون الميداني، المعلوماتي واللوجستي، في سوريا، الذي يشكل «تجاوزاً لخطوط حمر كانت الأجهزة الفرنسية قد وضعتها بنفسها، نظراً إلى التداعيات السياسية والأمنية المحتملة المترتبة عليه»، بحسب مصدر فرنسي واسع الاطلاع على هذا الملف. سبق للأجهزة الأمنية الفرنسية والاسرائيلية أن تعاونت في مجال تبادل المعلومات، وقامت حتى عام 2010 بعملية مشتركة تمثلت في اختطاف مهندس سوري مشارك في المشروع الكيماوي، خلال زيارته لباريس، والتحقيق معه. كشفت وسائل الإعلام الفرنسية عن هذه العملية في وقت لاحق، عملية «راتافيا»، وتحدث عنها بالتفصيل الصحافي فانسان نوزي في كتابة «الأسرار. فرنسا – اسرائيل 1948 – 2018»، والذي قابلته «الأخبار» العام الماضي. لكن التعاون الميداني في سوريا، إن حصل، سيشكل نقلة نوعية في مجرى التقارب الفرنسي – الاسرائيلي الذي بدأ مع «الانعطافة الكبرى» التي باشرها الرئيس الأسبق جاك شيراك في أواخر عهده، وتعززت خلال رئاسات نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند وايمانويل ماكرون. هل سيقرر هذا الأخير أن يشرع في هذه النقلة النوعية، مع ما قد ينجم عنها من نتائج على مصالح بلاده ووجودها العسكري ودورها في المنطقة؟
أيتام أميركا المنسحبة
تميزت المواقف الفرنسية والاسرائيلية المندّدة بقرار الانسحاب الأميركي من سوريا بنبرتها العالية. اعتبارات الطرف الاسرائيلي معروفة. هو يرى أن الانسحاب الأميركي في ظل انتصار محور المقاومة في المعركة الدائرة في هذا البلد وتعاظم قدراته العسكرية والصاروخية يمثل عملياً إقراراً أميركيا بتحوله الى ما يعتبره «منصة هجومية» ضد اسرائيل. المستغرب هو موقف فرنسا. لقد بررت تدخلها العسكري في سوريا والعراق بحجة ضرورة مشاركتها في الحرب ضد داعش حتى القضاء عليه. لقد تحقق هذا الهدف ولم يعد لهذا التنظيم سوى مجموعات وخلايا صغيرة قادرة في أحسن الأحوال على شن هجمات موضعية محدودة التأثير تستطيع القوى المحلية التعامل معها ومواجهتها. لماذا الاصرار على البقاء إذا؟ مشاركة فرنسا في الحرب ضد داعش، بحسب مصدر آخر، تمثلت في قيام طائراتها بعمليات قصف لمواقعه انطلاقاً من قواعد في الأردن وبمساهمة مجموعات من قواتها الخاصة، تراوح عددهم في السنوات الماضية بين 500 و800 جندي في سوريا والعراق، باستهداف قيادات التنظيم وبعض مراكزه ومعسكراته. اعتمدت هذه المجموعات على الغطاء الجوي وعلى الدعم المعلوماتي واللوجستي الذي وفرته القوات الأميركية في سوريا والعراق. «وحتى عندما أوقف الجيش السوري لمدة 48 ساعة العام الماضي قوة فرنسية دخلت من العراق الى سوريا، فإن هذه القوة كانت متجهة للتموضع في إحدى القواعد الأميركية، وأطلق سراحها بعد تدخل الرئيس الروسي بطلب من ماكرون»، يضيف المصدر. يعتقد بعض الخبراء والمسؤولين السابقين في فرنسا أن قلة خبرة ماكرون في الشؤون السياسية، التي تبدّت بوضوح على المستوى الداخلي من خلال تعاطيه المتغطرس والعنيد مع الاحتجاجات الشعبية وظاهرة السترات الصفراء، تسحب نفسها أيضاً على مستوى السياسة الخارجية. قد يظن الرئيس الفرنسي أن موقفه الرافض لمغادرة قواته سوريا مع القوات الأميركية بذريعة عدم التخلي «النبيل» عن «حلفائنا الأكراد الذين قاتلوا داعش الى جانبنا وقدموا تضحيات هائلة» ستنعكس ارتفاعاً في معدلات شعبيته المنحدرة بسرعة بسبب بؤس معالجاته للتحديات الاجتماعية والسياسية الداخلية. الحسابات الخاصة، ولا سيما الانتخابية منها، كثيراً ما تحكم مواقف وقرارات النمط الجديد من القادة في «الديمقراطيات العريقة». لا شك في أن حسابات كهذه حكمت موقف ترامب عندما أعلن قراره سحب قواته من سوريا وخفض عديدها في أفغانستان. هي تفسر أيضاً، وفق وزير الدفاع الاسرائيلي الأسبق موشيه يعالون، في مقال نشره في «معاريف»، جهر نتنياهو بمسؤولية اسرائيل عن قصف سوريا، ما تسبّب بردها التحذيري بإطلاق صاروخ ضد اسرائيل. يقول يعالون: «مبدأ أساسي في سياسة الخطوط الحمر التي اعتمدناها في سوريا هو الغموض وعدم تحمل المسؤولية علناً عمّا نفعله، حتى عند استخدامنا القوة بعد تجاوز هذه الخطوط. سياسة الغموض لها محاسن عديدة. الطرف الآخر يعرف من يضربه ولماذا، لكنه يستطيع احتواء الأمر وعدم الرد نظراً إلى تفوّقنا عليه. لقد عززت هذه السياسة ردعنا بشكل كبير… التفسير الوحيد لتغيير هذه السياسة هو المصالح والحسابات السياسية التي من المفترض ألا يكون لها أي اعتبار عندما يتعلق الأمر بأمن اسرائيل».
بمعزل عن الحسابات الخاصة، قد يندرج الموقف الفرنسي المعارض للانسحاب الأميركي – وما تبعه من معلومات عن تنسيق محتمل مع اسرائيل – في اطار السعي للضغط على الرئيس الأميركي الذي يتعرض منذ التصريح بقراره لحملة ضغوط من داخل إدارته وخارجها في الولايات المتحدة ومن قبل بعض حلفائه، وفي مقدمتهم السعودية. قد يكون الأمر أيضاً محاولة فرنسية للتدخل في الصراع الدائر اليوم في الآن نفسه داخل الادارة، وبين ترامب والدولة العميقة لمصلحتها ومن أجل ثنيه عن الانسحاب أو تأخيره قدر المستطاع. ماذا ستفعل فرنسا إذا حزم الرئيس الأميركي أمره وسحب قواته، ولو مع بعض التأخير؟ هل ستبقي على قوات على الأرض وتعتمد على اسرائيل من أجل ذلك؟ هل يتوافر الحد الأدنى من الجدية عندما يتمّ التفكير، مجرد التفكير، في مثل هذه الخيارات؟ هل يعلم الرئيس الفرنسي ومستشاروه أن هناك حرباً دائرة على الأراضي السورية بين محور المقاومة وإسرائيل؟ إذا كانت المعلومات الواردة من باريس دقيقة، فعلى الرئيس الفرنسي ومستشاريه التفكير ملياً في ما سينجم عن التصادم المباشر مع المحور المنتصر والصاعد في الاقليم، ومراجعة التاريخ القريب وبعض ذكرياته «الأليمة»…