كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:
ليس هناك أبلغ تعبير عن صعوبة الوضع النقدي أكثر من رزمة التحفيزات لدعم القروض السكنية لعام 2019. كل خطوة يقوم بها مصرف لبنان ترتبط بسياساته النقدية. حاجته إلى الدولارات تحدّد سلوكه. فقد اشترط على المصارف الراغبة في تقديم منتجات الإقراض السكني المدعوم أن توفّر له كمية من الدولارات توازي قيمة القروض التي تمنحها بالليرة.
بين عامَي 2013 و2018 أغدق مصرف لبنان على السوق بالقروض السكنية المدعومة. لم يكن مهتماً بمن يستفيد من الدعم. كانت سياساته النقدية تتيح له تبذير الكثير على القلّة الميسورة خلافاً لحاله اليوم. أصبحت سياساته أكثر تقشّفاً وأكثر تشدّداً. أعاد القروض السكنية المدعومة بـ«القطارة». ففيما بدأ يبحث عن كل دولار في السوق ليمتصّه ويعزّز احتياطاته بالعملات الأجنبية، صار دعم القروض السكنية عبئاً يستنزف احتياطاته بالعملات الأجنبية. كل ليرة يضخّها لدعم السكن تموّل طلباً على الاستيراد بالدولار. لذا، قرّر أن يعدّل طريقة الدعم. في 2018 أوقف ضخّ التمويل المدعوم وفرض على المصارف أن تستعمل تمويلها الخاص مقابل دعم فرق السعر بين الفائدة العادية وفائدة الدعم. أيضاً، لم يهتم بمن يستفيد من الدعم وحافظ على الحدّ الأقصى ضمن 1.2 مليار ليرة. في رزمته لعام 2019، أجرى تعديلات أساسية، إلا أنه ربط دعم الفائدة بآلية تضمن له الحصول على الدولارات، إذ بات على المصارف أن تبيعه كميات من الدولار توازي قيمة القروض المدعومة التي ستمنحها للزبائن، وبالتالي لا قروض مدعومة عبر المصارف التي لا تحمل الدولارات.
أي رزمة في 2019؟
يتوقع أن يصدر مصرف لبنان في مطلع الأسبوع المقبل تعميماً يحدّد سلّة التحفيزات للقروض المدعومة الفوائد. التعميم يخصص دعماً إجمالياً لقروض بنحو ألف مليار ليرة، منها 300 مليار للقروض السكنية. وبات أكيداً أنه جرى إدخال تعديلات أساسية على شروط الاستفادة من القروض السكنية المدعومة؛ أبرزها خفض سقف القرض إلى 450 مليون ليرة للمقيمين في لبنان و800 مليون ليرة للمغتربين، مقارنة مع 1.2 مليار ليرة في السنوات الماضية. مصرف لبنان قرّر الحفاظ على سقف مرتفع لقروض المغتربين المدعومة من أجل ضمان استمرار التدفقات النقدية بالعملات الأجنبية التي يمتصّها مصرف لبنان لتعزيز احتياطاته بالعملات الأجنبية.
كذلك طرأت تعديلات على أسعار الفوائد على القروض المدعومة التي تقسم إلى نوعين: القروض التي يدعمها مصرف لبنان مباشرة ارتفعت الفائدة عليها (الفائدة النهائية على الزبون) من 5.44% إلى 5.9%. أما القروض التي يدعمها مصرف لبنان عبر البروتوكولات الخاصّة مثل المؤسسة العامة للإسكان، والقضاة، والجيش، وقوى الأمن الداخلي، والأمن العام، وأمن الدولة، والجمارك، وفوج الإطفاء، والقضاة الشرعيين، وحرس بلدية بيروت، وموظفي التعليم العالي، وموظفي هيئة الأسواق المالية، وموظفي لجنة مراقبة هيئات الضمان، وموظفي وزارة المهجرين، وسواهم… فقد حدّدت بـ 5.4% مقارنة بفائدة كانت تتراوح بين 2.2% حتى 4.7% تبعاً لكل فئة من فئات البروتوكولات.
ومن الشروط الأساسية لسلّة تحفيزات القروض السكنية لعام 2019، أن تلتزم المصارف بالتعميم 503 الصادر عن مصرف لبنان في 10 آب 2018. يومها قرّر مصرف لبنان أنه «لا يجوز أن يزيد صافي التسليفات الممنوحة من المصرف للقطاع الخاص بالليرة اللبنانية عن 25% من مجموع ودائع الزبائن لديه بالليرة اللبنانية». وقد تبيّن أن غالبية المصارف تجاوزت هذا السقف، وأن معدل التسليفات في القطاع المصرفي يزيد على 34% من مجموع ودائعه. وفي 2018 طلبت جمعية المصارف استثناء القروض السكنية من هذا السقف، فرفض مصرف لبنان لدواع تتعلق بسياساته النقدية التي تستهدف كبح الطلب على الدولار والتحويل إلى الخارج.
إزاء هذا الوضع، ابتدع مصرف لبنان صيغة مناسبة لسياساته النقدية تقضي بأن توفّر له المصارف كمية من الدولارات توازي قيمة القروض السكنية التي ينوي منحها للزبائن بالليرة، فتبيعه الدولارات ويعطيها الليرات اللازمة للقروض وفوقها قيمة دعم الفوائد.
سياسة خنق السيولة
مصرف لبنان يستعمل القروض السكنية أداة لاستجلاب الدولارات من الخارج. النتائج ليست واضحة له بعد، إلا أن مصادر في مصرف لبنان تقول إن هناك مصارف عرضت أن تستبدل الدولارات المتوافرة لديها بكميات من الليرة يمكن استعمالها في تقديم منتجات الإقراض السكني المدعوم، ما يسهم في تعزيز الصيغة التي حدّدها مصرف لبنان لتقديم القروض السكنية المدعومة.
حجم الدعم لعام 2019 لا يكفي لأكثر من 1333 أسرة
وبشكل عام، فإن هذه الصيغة تعكس السياسات النقدية التشدّدية التي بدأ ينفذها مصرف لبنان منذ أكثر من ثلاث سنوات. وهذه الصيغة، كما غيرها من الصيغ الناجمة عن هذه السياسات، أدّت إلى «خنق» السيولة في السوق وتقنين ضخّها من أجل تمكين مصرف لبنان من الحفاظ على مستوى مرتفع من احتياطاته بالعملات الأجنبية.
ومن خلال التعديلات التي أجراها على شروط الاستفادة، يحاول مصرف لبنان أن يترك انطباعاً بأن الدعم سيكون من نصيب ذوي الدخل المحدود، لكن ما هو حجم استفادة هذه الشريحة؟
في الواقع، إن المعدل الوسطي للقرض السكني المدعوم عبر مصرف لبنان لا يزيد على 225 مليون ليرة، ما يعني أن عدد المستفيدين من 300 مليار ليرة لن يزيد على 1333 أسرة، وهو عدد زهيد جداً قياساً على حجم الطلب السوقي المقدّر بأكثر من 15 ألف طلب سنوياً.
القسط الشهري vs الأجر الوسطي
المصارف تحتسب القروض السكنية المدعومة بطريقتين: بعضها يحدّد رقماً ثابتاً للقسط الشهري، وبعضها الآخر يترك القسط الشهري مرتبطاً بتقلبات الفائدة التناقصية من الأعلى إلى الأدنى. في الحالتين، تمثّل قيمة الفوائد نحو 74% من أصل القرض، أي أن المقترض سيدفع 174% من قيمة القرض الذي يحصل عليه من المصرف على مدى 25 عاماً على أساس فائدة بمعدل 5.9%. وعلى سبيل المثال، إذا اقترض الزبون 450 مليون ليرة، أي الحدّ الأقصى للقرض المدعوم، بفائدة 5.9% وعلى مدى 25 عاماً، يكون القسط الشهري الثابت 2.85 مليون ليرة، أي ما يعادل 4.2 مرات الحدّ الأدنى للأجور في لبنان، وهو ما يساوي 1.4 المعدل الوسطي للأجور في لبنان إذا اعتبرنا أن الأجر الوسطي في لبنان يتراوح بين 1200 و1500 دولار شهرياً.