كتبت ميسم رزق في صحيفة “الأخبار”:
عكست مداولات الاجتماع الأخير للمجلس الأعلى للدفاع ارتباكاً في قرار لبنان الرسمي بشأن التطورات الأخيرة في الجنوب. وظهر واضحاً الخلاف حول مسألة ترسيم الحدود البرية والبحرية من جهة، وحول كيفية تعامل الجيش مع خروقات العدو. حجم التأثير الأميركي على الحاضرين انعكس تردداً في القرار، فيما تستمر إسرائيل في بناء الجدار الاسمنتي والتعدي على الحدود اللبنانية من دون رادع.
لم تكُن المُواجهة العسكرية المحدودة بينَ الجيش اللبناني وجيش العدو الإسرائيلي في العديسة عام 2010 مُجرّد حادثة عرضية. هي واقعة «الشجرة» التي لم يُخطَّط لها أن تبدأ وتستمرّ، وفق «السيناريو» الذي شاهده العالم وقتَذاك، حين لم يتأخر الجيش في الردّ على خرق إسرائيلي. قرّر التصدّي لوحدة معادية اجتازت الحدود، مظهراً للعالم استعداده العملاني للمواجهة متى تجرّأ العدو. اليوم، وبعدَ 9 أعوام، تعود تلك المنطقة إلى الواجهة، في ظل استمرار العدو في بناء الجدار الاسمنتي عند نقاط متنازع عليها.
ارتفاع منسوب الأسئلة حول موقف «لبنان الرسمي» مما يحصل على الحدود الجنوبية، سببه طبيعة النقاش الذي دار في الجلسة الأخيرة للمجلس الأعلى للدفاع اللبناني (في العاشر من الشهر الجاري)، حيث ظهر التباين بين رأيين في ما خصّ قرار تصدّي الجيش من جهة، والتفاوض عبر الأمم المتحدة على النقاط المتنازع عليها براً وبحراً في آن واحد من جهة أخرى. برز حجم التأثير الأميركي على الحاضرين بعد الرسائل التي نقلها مساعد وزير الخارجية الأميركية، ديفيد هيل، وقائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي، الجنرال جوزف فوتيل، خلال زيارتيهما لبنان.
في الاجتماع المذكور، طلب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون مناقشة ما يجري على الحدود، وخصوصاً أن «أميركا أبلغتنا أن الإسرائيلي يُصرّ على بناء الجدار مهما حصل»، قبلَ أن يُعطي الكلام لقائد الجيش العماد جوزف عون الذي قال: «إن هذا الأمر ليسَ بجديد. فأساسات الجدار وضعت، والجانب الإسرائيلي سيستكملها»، لافتاً إلى أن «الإسرائيليين، خلال الاجتماعات الثلاثية التي تحصل في الناقورة، عكسوا هذا الجوّ. هم وضعوا 29 جداراً، منها 9 في النقاط المتحفّظ عليها». بعد ذلك، ترك قائد الجيش لأحد العسكريين تقديم شرح تقني مفصّل لمدّة ربع ساعة، ركّز فيه على نقطة «مسكاف عام». قدّم أيضاً تقريراً عن اجتماعات اللجنة الثلاثية والنقاش فيها، والفرق بين الخط الأزرق والخطّ الأخضر، مشيراً إلى نقطة خطيرة وهي أن «المندوب الإسرائيلي يرفض مطابقة لبنان بين الخط الأزرق وخطّ الهدنة، لأن الهدنة سقطت عام 1967، حينَ قامت طائرة لبنانية بقصف مستعمرة إسرائيلية. لكن هذه نظرية غير موفقة لأن القرار 1701 يتحدث في إحدى مواده عن احترام الحدود الدولية المعترف بها، أي خط الهدنة». وبعدما تحدث الضابط عن التفاوض مع مندوب العدو حول النقاط الـ 13، سأل الرئيس عون عن النقاط التي تمّ الاتفاق حولها، والنقاط التي لا تزال موضع تفاوض. كان الجواب أنه تمّ الاتفاق على 7 نقاط، وهناك نقطة يجري التفاوض حولها، وبقي هناك 5 فقط، لكن التقدير أن العدو «لن يتراجع حيث توجد مستعمرات».
بعدها انتقل الجميع إلى البحث في مسألة تصدي الجيش لهذه التجاوزات، فاعتبر رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري أن الدولة اللبنانية كانت قد اتخذت قراراً بالتصدي سابقاً لأي مخالفة، لذا «فلنستمر بهذا القرار، على أن يترافق ذلك مع تواصل دبلوماسي لتوقيف بناء الجدار». وأضاف الحريري: «علينا أن نقرر إن كنا سنتصدّى أو لا، وكيف سنتصدّى». رئيس الجمهورية أصرَ على اتخاذ قرار، إذ «علينا أن نقول سنفتح النار أو لا. لا نستطيع أن نطحش بهذه الطريقة»، مكرراً رسالة الجانب الأميركي أن «الإسرائيلي مُصر وسيستمر في بناء الجدار». سأل عون: «إذا بدأوا العمل، كيف بدنا نتعامل مع الموقف»؟ ردّ الحريري: «بالعادة، مش بتقوصوا بالهوا أو حدّن»؟ هنا ردّ قائد الجيش: «لا نعلم إن كانت ردّة الفعل الإسرائيلية شاملة أو محصورة».
حتى هذه اللحظة، لم يكُن المجتمعون قد توصلوا إلى قرار بشأن ما سيفعله الجيش على الحدود، فأخذ وزير الخارجية جبران باسيل دفّة الحديث ناقلاً النقاش إلى مكان آخر، وهو قضية فصل ترسيم الحدود البرّية عن تلك البحرية، أي الطرح الذي حمله المسؤولون الأميركيون في أكثر من زيارة. أشار باسيل إلى أن «جهة داخلية لا تزال تربط بين البرّ والبحر»، لافتاً إلى وجهة نظره التي تقول إن «من الأفضل أن نسير باتفاق البرّ، وبذلك نكون قد سجّلنا انتصاراً، لأن الجانب الإسرائيلي يعرض مساحة أكبر من تلك التي طالبنا بها». وأكد باسيل أنه لا يرى أي مصلحة في الربط بين الحدود البرية والبحرية، فهما «مسألتان منفصلتان».
كلام باسيل استدعى رداً من وزير المال علي حسن خليل، قائلاً: «نحن الجهة التي تصر وتلتزم بربط الحدود البرية بالحدود البحرية، ونحن مقتنعون بأهمية هذا الربط، وهذا الربط لا علاقة له بأمر التفاوض». وجهة نظر خليل أن «على الدولة اللبنانية أن تدرس نيات العدو في البحر، فهو محشور ويريد أن ينتهي من البرّ لحماية المستوطنات، ولا يمكن أن نراهن معه على حلّ النزاع على نقاط معينة، فبعض الأمتار قد تكون كفيلة بفتح نزاع معه». كذلك علّق خليل على الموقف الأميركي بأنه «ليسَ جديداً، والضغط بدأ منذ زمن. علينا الآن أن نحدد كيف سنتعاطى ميدانياً».
هنا، عاد الرئيس عون إلى النقطة الأولى سائلاً: «نفتح النار أم لا؟ الإسرائيليون مصممون، والأميركي يلمس جدية موقفهم». هذا الجدال دفع بالحريري إلى القول: «هناك خلاف في وجهات النظر، ويجب مناقشتها في اجتماعات جانبية. فلنبقِ على قرارنا القديم، نمنع بناء الجدار ونكلف الجيش بالتصدي». بدا واضحاً أن موقف الحريري لم يكن سوى بهدف المزايدة، إذ سرعان ما تحدث عن الذهاب إلى مجلس الأمن للمطالبة بإزالة البلوكات، وإطلاق لبنان موقفاً حاسماً وقاسياً، ونشر عسكر على الحدود. ثم أعاد فتح النقاش حول الفصل بين البرّ والبحر، عارضاَ فكرة «التفاوض على البرّ واللجوء إلى التحكيم في البحر». وقد لاقى وزير العدل سليم جريصاتي رئيس الحكومة قائلاً: «على لبنان أن يتقدّم بدعوى حول الحدود البحرية، لأن موقفنا سيكون قوياً». وزير المال سرعان ما عارض الفكرة، لأن إسرائيل لم توقّع أصلاً على اتفاقية البحار، ولأن لبنان لا يمكن أن يربح دعوى في أي محفل دولي في ظل وجود الأميركي. هنا، أشار وزير الخارجية إلى ثلاثة طرق للدعوة: التحكيم، محكمة العدل الدولية وقانون البحار، داعماً موقفه هذا بالقول: «نقطة الـ B1 ما بتعمل فرق كبير، ولن تؤثر على ترسيم الحدود في حال الفصل». قال باسيل بصراحة إن «الاتفاق على البحر والبرّ معاً لن يحصل إطلاقاً، لأن إسرائيل لم تسمح لنا حتى بأن نقترب لإجراء مسح على الحدود البحرية». وزير المال تحفّظ على كلام باسيل عن نقطة الـ B1 (وهي نقطة حدودية بين لبنان وفلسطين المحتلة عند رأس الناقورة، ويؤدي تحريكها إلى تعديل الحدود البحرية)، مؤكداً أن كل الدراسات والخرائط تثبت أن أي تعديل في هذه النقطة سينجم عنه خسارة كبيرة عند البلوك البحري رقم 8.
خلال المداولات، كان واضحاً أن موقف الفصل بين البر والبحر أمر متفق عليه بين عون والحريري وباسيل. وهو أمر أيده وزير الداخلية نهاد المشنوق. وبعدما أصر وزير المال على الموقف القديم «بالربط والتصدي»، تدخل المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، معتبراً أن أي موقف حاسم من لبنان وتهديد بالردّ والتصدي سيدفع الجانب الإسرائيلي إلى التفكير جدياً، وخصوصاً أنه يحاذر التهور. هذا الجدال دفع رئيس الجمهورية إلى السؤال مجدداً عن القرار الذي يجب اتخاذه في موضوع التصدي، فقال ممازحاً: «هل سنتخذ القرار أم ننتظر تأليف الحكومة؟». هنا عرض الحريري «عقد جلسة حكومية إذا اضطررنا إلى اتخاذ قرار بكيفية المواجهة». عدم الاتفاق حول الفصل بين البرّ والبحر دفع بأحد الضباط إلى التدخل، مشيراً إلى «أن المفاوضات حول البحر تؤكّد أن هناك مشكلة ليست محصورة مع الجانب الإسرائيلي، وإنما مع الدولة القبرصية». فأجاب باسيل: «وهناك مشكلة مع سوريا بنفس الحجم»! حينَ بدأ المجتمعون بصياغة البيان، تدخل قائد الجيش طالباً «تحديد كيفية التصدي»، فأجابه الحريري «تعزّز وجودك في المنطقة، وفي هذا الوقت نناقش نحن مسألة الفصل». عون وباسيل أكدا ضرورة «التفاوض على النقاط المتنازع عليها في البرّ دون ربطها بالبحر. فعملية الربط ستؤدي إلى وقوع دم أو تضييع الأرض، وبالفصل لن نخسر شيئاً».
لم يتوقف الضغط في هذه النقطة. ثمّة من يصر على السير في الطرح الأميركي. وأكثر من ذلك، هناك من يعتبر أن بناء الجدار ليسَ كارثة، كما رأى مدير استخبارات الجيش العميد طوني منصور، الذي اعتبر أن الإسرائيليين يستخدمون الطريق الذي يبنون الجدار عليه منذ سنوات طويلة، ونحن لم نعترض. فإذا هم حولوا الشريط الشائك إلى جدار «شو بيكونوا عملوا؟ شو بيختلف الوضع؟ منبطل نشوفهم ولا يشوفونا». حاول منصور التهويل ضد قرار التصدي بالقول إن «الجيش لا يستطيع أن يصمد أكثر من 24 ساعة في أي مواجهة».
بالوصول إلى هذه النقطة، كانت «ضاعت الطاسة». قائد الجيش يريد موقفاً واضحاً من إطلاق النار أو عدمه، فيجيبه رئيس الحكومة: «مع إطلاق النار، ولكن لا يحصل إلا بالعودة إليّ وإلى رئيس الجمهورية». كلام الحريري يوحي كأن القرار يقضي بسحب التفويض من الجيش، ولكن بطريقة مموّهة. لذا ركّز مجلس الدفاع الأعلى في مقرراته على صياغة الجملة التي تتعلق بالمؤسسة العسكرية بالقول: «إعطاء التوجيهات اللازمة لقيادة الجيش لكيفية التصدي لهذا التعدي».