Site icon IMLebanon

الحريري بين بلاء الهزيمة وبلاء التسوية

كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:

سواء أبصرت الحكومة النور هذا الاسبوع او في اي اسبوع آخر، او لم تبصره الى وقت اطول، ثمة قواعد جديدة فرضتها الاشهر التسعة من تكليف الرئيس سعد الحريري، شارك في وضعها او سلّم بها على مضض

بعض القواعد الجديدة التي أُدخِلت الى تأليف الحكومة كسبه الرئيس المكلف، والبعض الآخر تكبّد ثمنه. شأن وجود شريكين آخرين له في التأليف هما الوزير جبران باسيل وحزب الله، هو بدوره شريكهما الثالث في التسبب في تعذّر صدور المراسيم.

اولى القواعد الجديدة، استبعاد اي تفكير في الاعتذار. بعدما تمكّن اخيراً من إقران التكليف بفلك مذهبه، لم يعد من السهولة بمكان الاعتقاد ان في وسع اي مرجعية دستورية او سياسية، للسبب نفسه، انتزاع هذا التكليف من الرئيس سعد الحريري. من الآن فصاعداً، لم تعد لمدة التكليف اي اهمية ولا اداة ضغط، ولا عرضة للتفسير والاجتهاد، ولا قيود معنوية واخلاقية حتى، تحمل صاحبه على الظن انه استنزف قدراته وفرصه في تأليف حكومته، وبات عليه مغادرة الملعب. في امكان اي رئيس مكلف الاقتداء بالتجربة الحالية للحريري، ليس بالتشبّث بالتكليف فحسب، انما ايضاً بالاعتكاف والتوقف عن اي دور والتحجج بمشاورات جولة بعد اخرى، من غير احراز ادنى تقدم حتى نحو تأليفه حكومته. ما لم يشأ هو الاعتذار، ليس له ان يعير اي موقف مناوىء اي اهتمام.

ثانية القواعد، يعرف الحريري ان التفكير في الاعتذار كي يصير الى اعادة تكليفه هو او سواه يُعدّ الآن تصرّفاً ساذجاً لاسباب شتى:

منها اولاً، ان اياً من الافرقاء المؤثرين المشاركين في التأليف لم يقل مرة، او ارسل اشارة جدية الى رغبة في الاستغناء عن الحريري. لم يتطوّع احد لابداء الاستعداد للحلول محله. الاهم ان احداً لا يريد هزمه امام طائفته وداخلها بالايحاء بفرض الاعتذار عليه، او حمله اليه. الاهم كذلك ان حزب الله – اذ يحرص على جعل النواب السنّة الستة جسره الى الطائفة السنّية شأن جسريه المسيحي والدرزي – يفصح عن تمسكه بالحريري في كل حين.

ومنها ثانياً، ان الاعتذار لم يثبت مرة انه مناورة مفيدة بشهادة الحريري نفسه الذي خبره عام 2009: كُلف تأليف الحكومة على اثر انتخابات نيابية خرج منها زعيم الغالبية. مع ذلك كبّده تأليفه حكومته الاولى الاعتذار بعد 77 يوماً من تكليفه، تقدّم خلالها بمسودة الى رئيس الجمهورية ميشال سليمان، الا ان المعارضة – لا سليمان – كانت وراء اعتذاره. أُعيد تكليفه ونجح بعد 50 يوماً من التكليف الثاني في اصدار مراسيمها. ما رفضته المعارضة (قوى 8 آذار) في المسودة حملت الحريري على القبول به. ثم تكبّد ثانية بعد 13 شهراً ثمن القبول بتولي المعارضة بنفسها اسقاط حكومته.

منها ثالثاً، ان الاعتذار اشبه بسيف خشبي في ظل اصرار الافرقاء على بقائه رئيساً لحكومة من غير ان يناط به وحده تأليفها. وهو ما يفسّر ان الفيتو الفعلي الذي أشهره الحريري منذ نهاية تشرين الاول، رفضه توزير احد من النواب السنّة الستة في حصته السنّية، قبل ان يسلّم بتوزير احد ما يمثلهم. آخر ما بلغ الى هؤلاء تشدّده في رفض توزير أحد منهم وأحد من الثلاثة الذين يقترحون تمثيلهم ويفضل الذهاب الى مرشح ثالث. ولأنه لم يعد يملك سوى الفيتو السنّي – وإن من غير ان يكون مطلقاً- ليس مستغرباً ان رئيس الجمهورية ميشال عون هو الذي حلّ العقدتين الدرزية والمسيحية، وقدّم نصف حل للعقدة السنّية. اخفق الرئيس المكلف في اعطاء وليد جنبلاط المقاعد الثلاثة التي وعده بها في مسودة ايلول، واخفق في اعطاء رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع اربع حقائب لاربعة وزراء وعدهم بها ايضاً.

ثالثة القواعد، تسليم الحريري على مضض بشريكين اثنين له في التأليف من دونهما لا يسعه اصدار مراسيمها: باسيل بعدما ناط به رئيس الجمهورية التفاوض باسمه، وحزب الله: الاول يفاوض باسم الرئيس عن الحاضر وباسم طموحه السياسي عن المستقبل. اما الثاني فيرسم توازنات جديدة داخل السلطة الاجرائية.

بذلك يضع باسيل قاعدة جديدة غير مسبوقة في مراحل متشابهة، عندما يحلّ حزبيٌ في رئاسة الجمهورية. المحاولة الاولى غير مكتملة مع الرئيس بشير الجميّل، والثانية مكتملة مع الرئيس امين الجميّل. في كلتيهما لم يقل وقتذاك ان ثمة حزباً حاكماً. ما يعنيه اصرار باسيل، بدعم من الرئيس حتماً، فرض قاعدة ان ثمة حزباً للرئيس يقتضي تمتعه بالامتياز. في الواقع فإن عون هو ثالث رئيس حزب يصل الى رئاسة الجمهورية، في حين خبرت الطائفة الشيعية هذا المسار للمرة الاولى عام 1992 بوصول رئيس حركة امل نبيه برّي الى رئاسة البرلمان. في ما بعد، وصل الرئيس رفيق الحريري الى رئاسة الحكومة قبل ان يترأس حزبه الذي لم يبصر النور كتيار سياسي سوى في انتخابات 2000. منذ عام 2005، بعد اغتيال مؤسسه، تحوّل تيار المستقبل تدريجاً الى حزب من غير ان يمسي مرة حزباً حاكماً.

لا يعني كل كلام عن تثبيت حصة وزارية مستقلة لرئيس الجمهورية، ولا كذلك حصول حزبه على حصة ممتازة بعدما خرج اكبر الرابحين في انتخابات 2018 وصاحب الكتلة النيابية الكبرى، سوى تكريس هذه القاعدة بالذات. وقد يكون التعبير الاكثر وضوحاً تحوّل باسيل شريكاً فعلياً للحريري في تأليف الحكومة. خلافاً لما يفعله الرئيس المكلف مع الافرقاء الآخرين عندما يناقشهم في حصصهم، عندما يلتقي باسيل يتناقشان في حصص الجميع وعلى حساب الجميع.

رابعة القواعد، ما لم يصر يوماً، يجري فرضه قاعدة ملازمة لتأليف حكومة تلي انتخابات نيابية عامة، هو ان ترسي نتائج الانتخابات توازن القوى في مجلس الوزراء. لم يكن الحريري اقل التصاقاً بنتائج الانتخابات النيابية عامي 2005 و2009 باصراره، في مرحلة الانقسام بين قوى 8 و14 آذار، على حكومة تحوز فيها الغالبية النيابية التي تزعمها اكثريتها. في المرة الاولى نجحت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في الحصول عليها، وفي الثانية اخفقت حكومة الحريري حينما سلّم باعطاء معارضيه الثلث+1. في انتخابات 2018 جارى باسيل في القاعدة نفسها قبل ان يكتشف ان حليفه (التيار الوطني الحر) وندّه (ثنائي حزب الله – حركة امل) خرجا رابحين منها، فيما بدا عليه هو تقديم التنازل. لم يعد زعيم الغالبية ولا الزعيم الاوحد للسنّة كما حدث قبل عشر سنوات. بل يجد نفسه، للمرة الاولى، يسلّم بتمثيل سنّي لا يقتصر على وزير من خارج تياره او حلفائه، بل مناوىء له، ظهيره حزب الله.

في هذه المسألة بالذات تكمن نقطة ضعف اساسية في الحريري: تنازله عن مقعد سنّي لتجمّع النواب السنّة الستة اقرار بهزيمته امام الشريكين الآخرين، في حين ان تنازل باسيل عن الثلث+1 او حزب الله عن توزير التجمّع تسوية يبرمانها معه.

البون شاسع بين الهزيمة والتسوية.