كتبت ميسم رزق في صحيفة “الأخبار”:
قلة في تيار المستقبل تبدو قادرة على فهم السياسة التي ينتهجها الرئيس سعد الحريري، إن على المستوى التنظيمي داخل التيار، أو في ما يتعلّق بطريقة إدارته للملف الحكومي. الأكيد أن هذه السياسة بدأت تولّد نقمات عليه، أبرزها في منطقة الشمال، بعد أن بات واضحاً أنه «يعمل على مكافأة خصومه ومعاقبة حلفائه»
منذُ إبرامه التسوية الرئاسية مع العماد ميشال عون، يكاد الرئيس سعد الحريري يدير ظهره لجميع المحيطين به في تيار المُستقبل. الإجراءات التي اتخذها هدفت إلى استبعاد كل الذين كانوا يُعدّون من الأساسات الصلبة لرسم سياسات التيار، كأنه يقول إنه سئِم الشراكة في التفكير واتخاذ القرار، ويريد أن يؤدي هذا الدور وحده بمعزل عن الآخرين، من دون أن يحسب حساباً لقدرته على الصمود بما فيه الكفاية.
وقد تعدّدت الأحداث التي تُشير إلى أن هذه السياسة التي يسير بها رئيس تيار المُستقبَل، «تؤكد لجوءه الى أسوأ الخيارات» على حد وصف مستقبليين يقولون إن ما يقوم به يصبّ في خانة «معاقبة الحلفاء ومكافأة الخصوم». يتحدّث مريدو الحريري عن «تخبط وسخط كبيرين داخل مؤسسات التيار كافة، بسبب أُحادية القرار، إن على المستوى التنظيمي، أو في ما يتعلّق بطريقة إدارة الحريري للملف الحكومي، والعلاقة الوطيدة وغير المفهومة التي تجمعه بوزير الخارجية جبران باسيل».
برزت مؤشرات التخبّط أخيراً، بحسب المستائين، «في تغطيته لموقف باسيل من ملف اللاجئين السوريين خلال القمة العربية الاقتصادية، في مُقابل رفعه الغطاء عن وزيره المقرب معين المرعبي». هذا الموقِف لم يمُر عرَضاً على المستقبليين الذين تفاجأوا بموقف رئيسهم، خصوصاً أن ملف العلاقة مع سوريا لا يزال يُعَدّ من «المحرمات» عند المستقبليين، على عكس الحريري الذي عبّر أكثر من مرّة خلال لقاءات مع بعض المعنيين بأن «العلاقة مع سوريا ليسَت مشكلة. ولا عقبة. لكن الآن يجب تأجيل البحث فيها. وإلى أن تتخذ الجامعة العربية قراراً، حينها لكل حادث حديث».
ولا يقتصر التخبّط على موقفين مختلفين للحريري والمرعبي، فقد صار ذلك سمة التيار ومنهجه. تظهّر ذلك في القرارات التنظيمية الجديدة التي اتخذها الحريري أخيراً في الأمانة العامة للتيار، وكان العنوان البارز فيها عقاب صقر. هذه العودة التي أرادها الحريري لصقر، رأى فيها مستقبليون «شيئاً شديد الخطورة يحصل داخل التيار». على مدى أسبوع بعد إصدار القرار بتعيين صقر مستشاراً في مكتب الحريري، ومستشاراً للشؤون التثقيفية للأمين العام للتيار أحمد الحريري، لم تتوقف الأسئلة عن مغزى الرسالة التي أراد الحريري توجيهها وإلى مَن. فهل هي رسالة إلى حزب الله في عزّ الانفتاح عليه؟ ولا سيما أن التجربة تقول إن شخصيات كعقاب صقر هي مشروع مواجهة سياسية لا مهادنة أو تسوية؟ أم هي رسالة إلى سوريا التي يعدّ صقر أحد أبرز الأسماء على قوائم الإرهاب لديها؟ يرى مستقبليون آخرون أن تعيين صقر لا يحتمل كل تلك التحليلات، فالأمر لا يعدو كونه «إعجاباً من الرئيس بصقر. لا أكثر ولا أقل».
لكن التساؤلات الملحّة والمشككة في قرار الحريري وصلت إلى حدّ اعتبار عودة صقر رسالة إلى الداخل المستقبلي أولاً. فهو في مقابل إطاحة نادر الحريري وتحييد الوزير نهاد المشنوق اللذين كانا من أشرس المدافعين عنه حين كان محتجزاً في الرياض، فضّل تكريم من اتُّهموا بالانقلاب عليه!
ما الذي يسعى إليه سعد الحريري؟ لقد قدّم التيار في الأسابيع القليلة الماضية نموذجاً عمّا يريده رئيسه. الإحراج الذي وقعت فيه النائبة رولا الطبش جارودي بين الكنيسة ودار الإفتاء، والموقف الذي أطلقته النائبة ديما جمالي بأنها لا تعرف أي شيء عن مسألة تأليف الحكومة، يدفع البعض في التيار إلى قراءة مختلفة لما يعمَل الرجل على تأسيسه. يخلص هذا البعض إلى أن الحريري يريد أن يعمّم هذه النماذج لأجل تسيّد تياره. فلا مكان له بين عتاة السياسة. انحدار مستوى كتلة «المستقبل» من شخصيات كفؤاد السنيورة ونهاد المشنوق وأحمد فتفت إلى الصورة الحالية التي تسبّب الكثير من المشاكل داخل التيار. وهي ليست وليدة لحظة، بل تعود إلى آخر انتخابات للمكتب السياسي، وما رافقها من استهزاء بـ«مسار التجديد» الذي أراد إرساءه. الواضح أنه يرفض كل من ينافسه أو يعارضه. ينسحِب ذلك على حالة من النقمة الموجودة لدى بعض صقور التيار الذين يرون أن الحريري يهرب منهم إلى الخصوم، بإعادة إبرام اتفاق مع الرئيس نجيب ميقاتي والوزير السابق محمد الصفدي على حساب أبناء التيار، من خلال حجزه مقعداً وزارياً لكتلة ميقاتي في الحكومة العتيدة، وآخر لزوجة الصفدي، من دون أي اعتبار لمن راهن عليهم على الدوام. وهذا ما قد يجره إلى استبعاد النائب السابق مصطفى علوش عن الحكومة، والنكث بوعد كان قد قطعه للنائب محمد كبارة بتوزير ابنه. وقد أصبح معروفاً أن الشمال باتَ يشهَد صرخة مكتومة ضده، ستؤدي إلى مزيد من الشرذمة. فضلاً عن أن إعادة التعيينات في مكتب الأمانة العامة للتيار التي حصلت أخيراً، لم تلحظ وجود كوادر شمالية!
هذا الأمر يثير استغراب مستقبليين أصبحوا يلمسون انعكاس هذه التصرفات سلباً، ويسألون: «هل يعقل أن يحيّد نهاد المشنوق الذي أصبح الصوت المسموع الوحيد منذ كلامه في دار الإفتاء ضد المملكة، في مدينة مثل بيروت من دون أن يكون البديل له من نفس الخبرة السياسية؟ وهل من المنطق بعدَ أن استبعد الرئيس فؤاد السنيورة في انتخابات صيدا أن يخرج الحريري ويشيد بالنائب أسامة سعد لأنه لم ينضم إلى اللقاء التشاوري؟ هل يستحق النائب سمير الجسر استبعاده عن رئاسة الكتلة كما كان مقرراً لمصلحة عمته بهية الحريري، دون أن يُقيم وزناً لمدينة طالما كانت خزاناً شعبياً لتياره؟».
وكأن الحريري يعمَل لأن يكون وحيداً. وفقَ عارفيه لا يُمكنه رؤية غيره بارزاً. لا يحتمِل أن تركّز الأضواء على آخرين. كذلك تستحيل لديه فكرة وجود شخصية أخرى على كرسي رئاسة الحكومة، ولو اقتضى ذلك أن يدخلها من دون وزراء لتياره. وهذا وحده كفيل بالإضاءة على انقلاب الحريري على نفسه ومحيطه، إذ يعيش نظرية المؤامرة الدائمة، بأن كل واحد ممن هم بقربه يسعى إلى تحقيق طموحه الرئاسي أو الوزاري.
من الواضح، في رأي بعض أركان تياره، أن الحريري يصرّ على تقديم نفسه بصورة «الحريري الجديد»، ساعياً إلى التحرر من «أوزار» من وقفوا بقربه، وإن اقتضى ذلك الاستغناء عن أقرب المقربين منه. وصل به الأمر، على ذمة مقربين منه، إلى حد السعي إلى إبعاد المسؤول عن حمايته الأمنية، عبد عرب، قبل أن يُحلّ خلاف نشب بينهما!