كتب علي الأمين في صحيفة “العرب” اللندنية:
“ولاية الفقيه” السياسية وما تمثّله على مستوى نظام الحكم، حدث طارئ في السياق الشيعي التاريخي، الشيعة العرب ومنهم اللبنانيون في القرن العشرين اندمجوا في السياق الاجتماعي والسياسي، وكانوا جزءا من الاجتماع العربي العام، وكانت المؤسسة الدينية المتمثلة بالحوزة العلمية في النجف الأشرف وامتداداتها في البيئات الشيعية، لا تعارض الواقع السياسي والسلطة، لكنها لا تعطي شرعية له، فوظيفة الحوزة العلمية كانت إدارة الملة.
ولاية الفقيه شيء مختلف ولا يزال طارئا في السياق الفقهي والسياسي، هذه الولاية رسّخت نفسها وتمددت كقوة عسكرية أمنية مالية، وليس كبعد ثقافي، هي أخذت شكل الصواريخ في لبنان، ولم تستطع أن تدخل حوزة النجف لتتحول إلى مسار فقهي، فموقف النجف لا يزال يعتبرها بدعة.
ولاية الفقيه أمسكت بموارد دولة، وسيطرت من خلالها على المؤسسات الدينية في إيران، وحولتها إلى أداة من أدواتها، وتحاول من خلالها التأثير في المجال الشيعي العربي.
لم تستطع أن تغير المزاج الشيعي، نجحت في إنتاج دوائرها الخاصة، وهي دوائر قائمة على بنية أمنية وهرمية ولم تستطع أن تخترق المجتمع إذ يوجد مجال شيعي بمعناه الثقافي والفقهي والمجتمعي عجزت ولاية الفقيه في اختراقه وهو لا يزال موجودا وقائما بتنوعه.
كما أنها لا تتناغم مع المزاج الشيعي العربي، والمزاج العربي عموما، ففي ولاية الفقيه شيء من الكسروية (نسبة إلى ملك الملوك كسرى) فنمط المُلك السياسي في المجتمعات العربية طابعه عائلي، فيما العقل الكسروي يتسم الحاكم فيه بخصائص إلهية.
المشكلة في عدم بروز هذا المجال الشيعي العربي الراسخ، هو نتيجة عدم وجود مشروع عربي، أي في غياب الجهة التي تستطيع أن توظف هذه الظاهرة. فحال التخبط العربي، لم يولد خطابا عربيا جامعا، قادرا أن يستوعب ويستثمر هذا المجال الشيعي الثقافي والفقهي والمجتمعي. لذا فولاية الفقيه في تمثّلاتها العربية، خلقت واقعا سياسيا وأمنيا نتيجة الفراغ العربي، ونتيجة الارتباك الشيعي في التموضع.
من الأساس لم تقم نظرية ولاية الفقيه على قاعدة علمية، كما الماركسية على سبيل المثال التي لا تزال توصف كنظرية علمية، ولاية الفقيه ليست لديها هذه البضاعة، هي نفسها على هامش الفقه الشيعي، وأرضيتها الاجتهادية ركيكة. غير قابلة للتطبيق في أي مكان ولا للتعميم، نظرية سياسية لم يمكن تطبيقها إلا في إيران، وهذه الوضعية تفقدها صفة النظرية.
حتى في إيران، أنتجت واقع قوة مدعم بالعناصر اللازمة لاستمراريتها، لم تنتج نظرية في السلطة، بقيت سلطة تبحث عن مسوّغ ديني، فضخمت المضمون الديني فيها، لأجل أن تحفظ استمراريتها وبقاءها سلطة تستمد مشروعيتها من الله. هل هذه نظرية سلطة؟!
ولاية الفقيه التي قدمها الإمام الخميني هي سلسلة محاضرات ألقاها في فترات مختلفة، وهي تفتقد الأرضية الفقهية على ما أكد معظم المراجع والعلماء الشيعة (السيد الخوئي- الشيخ شمس الدين).
وقد يطرح سؤال هل استطاعت ولاية الفقيه أن تغير الهوية الشيعية العربية؟ الولاء لحزب الله كمعبّر عن ولاية الفقيه على سبيل المثال. لم يكن لدى شيعة لبنان ولاء ثقافيا، ولأن طبيعة الأمور تفرض أن الأكثرية السنية في البيئة العربية فشلت في صوغ مشروع عربي، وتمّ اختراقها من قبل جماعات إرهابية وعنفية وإلغائية، فالجمهور الشيعي انحاز لحزب الله باعتباره قوة أمنية عسكرية وتوفر الحماية، لا لكونه خيارا سياسيا أو ثقافيا أو فقهيا. فحزب الله يعوّض لك كشيعي لبناني عقدة التهميش ولكن ولا مرة نجح في إقناع الشيعة أنه حالة ثقافية أو فقهية.
إلى جانب ذلك عدم وجود أو عدم رسوخ الخبرة السياسية لدى الجماعة الشيعية، ساهم في جزء من الاغتراب عن الواقع العربي، كما أن الواقع العربي تتحكم به وتتصارع فيه مشاريع سلطة وليس فيه مشاريع مواطنة تحترم التنوع.
أما العراق فلديه مكونان على هذا الصعيد: المكون الأول الحوزة الدينية، فحوزة النجف مؤسسة على معادلة تقوم على التكيّف مع المحيط العربي، وهي تتبنى مشروع الدولة المدنية.
المكون الثاني استقلالية العراق، فالعراقي غير مضطر أن يكون تابعا، وليس لديه عقدة نقص أو شعور دونيّ تجاه الإيراني أو سواه كما هو الحال في لبنان. هذان المكونان يمكن لهما أن يولدا مسارا شيعيا عربيا بقاطرة عراقية يضيق مساحة ولاية الفقيه. وحتى اليوم يمكن أن نلاحظ بيسر أن ولاية الفقيه لم تستطع رغم نفوذ الدولة الإيرانية من أن تغير في هوية النجف الراسخة أو في جعل قيادات دينية وسياسية وازنة أن تتبنى هذه الولاية.
يمكن أحيانا ملاحظة بعض الرضوخ للنفوذ الإيراني، لكنه رضوخ لسلطة أمنية وسياسية وليس لولاية الفقيه.
المشهد الاجتماعي والثقافي العميق في العراق، لم تغيره ولاية الفقيه، ولم تتحول إلى حالة راسخة في المجتمع، وكما هو حال حزب الله في لبنان، هي حالة يقوم نفوذها في المجتمع على ضخ المال والسلاح والسيطرة على المؤسسات الرسمية والمدنية والدينية، كأي نظام استبدادي قادر على أن يفرض سلطته وخطابه والولاء له بالقوة المادية.
لكن يمكن ملاحظة أن البيئة الشيعية العربية بدت ضعيفة أمام اكتساح ولاية الفقيه كقوة نفوذ، وذلك نتيجة لأمرين: عنصر التهميش للبيئة الشيعية العربية، الذي أعاق بلورة تصور فقهي حول الانتظام السياسي الحديث والمعاصر، رغم ذلك ظلّ المسار التقليدي للحوزة الدينية في النجف، يشكل عنصرا فيه من الإيجابية تجاه الاجتماع السياسي العام، فالحوزة تعاملت مع الشأن السياسي والسلطة على وجه الخصوص بواقعية، لم تعطه شرعية ولكن لم تنافسه أو تزاحمه على مجاله. فالعقل الديني الشيعي والذي عبّرت عنه الحوزة، اعتبر نفسه مستقيلا من المشهد السياسي، فالحوزة النجفية أقالت نفسها من المشروع السياسي ومن العمل السياسي.
ويستند ذلك إلى فكرة ولاية الأمة على نفسها، التي تقوم على أن ليس للمؤسسة الدينية سلطة منفصلة عن دائرة الاجتماع، بطريقة أخرى المؤسسة الدينية مؤسسة اختصاص كالاختصاصات الطبية والهندسية وعلم الاجتماع والاقتصاد وغيرها من مجالات العلم.
الفقه الشيعي تأسس في بيئة بغداد في القرن الثالث الهجري مع الشيخين الطوسي والمفيد، أي تأسس في بيئة عقلية كلامية. وتيار المعتزلة شكل ذروة التنوير في العقل الإسلامي والتشيّع بمعناه الفقهي خرج من هذا التيار وهذا التنوير، العقل مرجعية والعقل هو الفيصل. لذا فالعقل الشيعي الاثني عشري يستطيع أن يتكيّف مع المتغيرات لأن قاعدته عقلية.
العقل الفقهي الشيعي براغماتي “ننتظر الإمام المهدي ونتكيّف ونتعاون مع الواقع″. وهذا بحد ذاته يحول دون أسر الاجتماع السياسي بفتاوى سياسية، ويتيح مجالا للتنوع وللخيارات السياسية، ولا يسقط في فخ تكفير المجتمع. وهو ما نشأ كعنصر مؤسس للعديد من حركات الإسلام السياسي في البيئة السنية، واستلهمها الإسلام السياسي الشيعي في حزب الدعوة وفي ولاية الفقيه لاحقا. هي ظواهر تبقى على هامش المكوّن الشيعي العربي.
لا يمكن النظر إلى الإسلام الشيعي في لبنان من خارج أزمة الاجتماع السياسي العربي، والتنوع لدى الشيعة اللبنانيين والعرب عموما هو الحقيقة المجتمعية الراسخة، التي تشكل ولاية الفقيه عنصرا طارئا وغريبا، هي ظاهرة عاجزة بطبيعتها أن تنتج وعيا ثقافيا وفقهيا راسخا في الاجتماع الشيعي، وعاجزة عن أن تقدم منجزا فكريا أو ثقافيا ولا حتى فقهيا. إنها على السطح ليس أكثر.