أعلنت صحيفة “المستقبل” انها تطوي 6585 عدداً في أدراج النسخة الورقية مؤرخة عقدين من عمر البلد الذي تأرجح بين الأفراح والأتراح، السلم والحرب، النضالات والخيانات، التسويات والتحالفات، الغزوات وجلسات الحوار التي امتدت على منوال ألف ليلة وليلة، فكان بعضها مثمراً أو مسكناً في الساحات التي احتدمت بالمطالب المعيشية والوطنية وبغايات الأحزاب والأطراف والطوابير، وذلك في العدد الأخير الذي صدر الخميس.
ولفتت “المستقبل” الى انه “على مدى عشرين عاماً من مواكبة الهم الإنساني والوطني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتربوي والبيئي والرياضي وغيره، فإنها اختارت الانحياز الى تزكية الحوار والنقاش بين اللبنانيين، بعيداً عن سياسة «فرق تسد»، فكانت الصوت الذي لا يعلو فوق صوت البلد، والقلم الذي سطر بالدم يوميات أليمة، وقبلها سطر بالأمل العدد الأول في 14 حزيران من العام 1999، يوم احتضنت العاصمة بيروت نحو 18 ألف مستمع من لبنان والدول العربية والأجنبية ممن حضروا ليطربوا على صوت مغني التينور الإيطالي لوتشيانو بافاروتي. فكان الموعد مع العدد الأول، إنما تأكيداً في مهمة عودة الإنماء والإعمار على وجه البلد الحقيقي الذي ينشد الحياة ويداري الجراح وآلام الفقدان والتهجير والخسائر الكبرى، وهو الهدف الذي سعى إليه الرئيس الشهيد رفيق الحريري من خلال مجموعته الإعلامية التي استمرت على النهج المعتدل وفق ثبات الرئيس الشهيد في أن: «ما حدا أكبر من بلدو» ومقولته الشهيرة: «لا تصدق كل ما تسمعه أذناك وصدق نصف ما تراه عيناك وأترك النصف الثاني للعقل فاستعمالكم للعقل سيكون هو المصفاة التي تؤدي بالنتيجة الى معرفة الحقيقة التي يحاول كثير من الناس في هذه الأيام طمسها عنكم”.
وأضافت: “لم تكن مهمة «المستقبل» معبّدة في الطرقات التي انتهجتها منحازة الى الرئيس الشهيد بفكره، بقوميته، بمرونته، باجتراحه الرؤى في أحلك الظروف، بإصراره على الولادة من قلب الشهادة، بإيمانه في جدوى الإعلام في زمن الانقلابات الكبرى، فكانت الداعم لمشروع الدولة والمؤسسات وإعادة البناء والسلم الأهلي والإنماء المتوازن والإصلاح المالي والقانوني والاجتماعي ومحطات قيمة من مؤتمر باريس (1) الى باريس (2) وصولاً الى «سيدر» وكانت في المقابل المشروع المناوئ لمشاريع التمديد والتهديد والوصاية وضرب السيادة والفوضى ومحاولات تفريغ البلد وكتم أصوات الأحرار بدءاً من محاولة اغتيال الوزير مروان حماده الى الرئيس رفيق الحريري وباسل فليحان وسمير قصير وجورج حاوي وإلياس المر ومي شدياق وجبران تويني وبيار الجميل ووليد عيدو وأنطوان غانم وفرانسوا الحاج ووسام عيد ووسام الحسن ومحمد شطح وعشرات الضحايا من المدنيين”.
وواصلت: “لحصة جريدة «المستقبل» من حصار بيروت في السابع من أيار من العام 2008 دمار أصاب المبنى في الرملة البيضاء وأذى لحق بالعاملين والإداريين الذين حرصوا على الصدور من دار الصياد إنما لتبقى الكلمة بالمرصاد في مواجهة الحركات الانقلابية وفوضى الشارع والانتصارات الوهمية ومحاولات الاستفزاز والتهويل والتشبيح، ولتشهد «المستقبل» من بعد اتفاق الدوحة على مرحلة جديدة فيها «مانشيت» ثورة الأرز والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان ووصايا الشهداء وحكومات العهود وبناء دولة المؤسسات والانسحاب السوري ونبض أهالي العسكريين الذين استشهدوا في مقاومة ودحر الإرهاب، وفيها العين الراصدة لآلام النازحين واللاجئين وأفول أنظمة عربية وارتقاء أخرى، وفيها المسيرة الاستقلالية وتثبيت تاريخ جديد للعدالة والسعي الى التوافق وإعادة بناء المؤسسات وتحصين القطاع المصرفي والاحتفاء بافتتاح المدارس الحكومية ومشاريع الإنماء المتوازن وغيرها من المحطات التي دمغت تاريخ الجريدة بتاريخ الوطن الذي فيه محطات حلوة ومرة وما بين بين”.
وأضافت: “إذ يوجز العدد الورقي الأخير حكاية وطن وجريدة بمختارات من أبرز «المانشيت» السياسي والأحداث التي عصفت بالبلد على مر العقدين الأخيرين، يبقى العزاء في أن «الحكاية ما خلصت»، وتستمر المهمة بأشكال أكثر حرفية وأنماط إعلامية باتت تفرض نفسها على الساحة الإعلامية، تماماً كما يحدث في العالم ومن حولنا”.
وختمت: “المستقبل” تطوي آخر صفحاتها اليوم، 14 حزيران 1999 كانت الانطلاقة ورقياً.. 14 شباط 2019 الانطلاقة تتجدّد رقمياً. إلى اللقاء”.
من جهته كتب هاني حمود مقالا في الصفحة الأولى للصحيفة في عددها الأخير جاء فيه:
قبل انقضاء القرن والألفية الماضيين بعام، أطلق رفيق الحريري جريدته، «المستقبل». يومها كان في المعارضة، في معركة ظاهرها مع إميل لحود، وحقيقتها مواجهة مع نظام الوصاية، ومع مشاريع متقاطعة لشفط النخاع الشوكي من وطن سحر رفيق الحريري بتركيبته وأهله وإمكاناتهما.
بعد ذلك بخمس سنوات، دفع رفيق الحريري ثمن وقوفه في وجه هذه المشاريع، بدمه. ولم تنتهِ المواجهة. تحوّلت جريدته من المعارضة إلى الثورة، ثورة اللبنانيين على واقع كان العالم كله يتواطأ على إقناعهم بأنّ شيئاً لا يمكن أن يغيّره، فإذا بهم يثبتون العكس.
ومنذ ذلك اليوم، واللبنانيون جميعاً، ومعهم جريدة «المستقبل»، يدفعون ثمن الصفعة التي وجهوها لتواطؤ العالم، كل العالم، ذات رابع عشر من آذار، وثمن انتصارهم على مشاريع القضاء على لبنان كما رآه شهيدهم، فيتلقون الضربة تلو الضربة والطعنة تلو الطعنة، لكن لا يركعون.
وبين إطلاق رفيق الحريري لجريدته، واليوم، عشرون عاماً. جيل كامل، ووقت كافٍ لتحولات عميقة، في الوطن والمنطقة والعالم. في التكنولوجيا، والإتصالات، والإعلام. في الكتابة، والأهم، الأهم: في القراءة.
لم نكن يوماً، في لبنان وعالم العرب إجمالاً، أبطال العالم في القراءة، لأسباب عديدة ربما لا مجال لتعدادها هنا. لكن الثورة التكنولوجية التي شهدتها السنوات العشرون الأخيرة – الجيل الكامل – غيّرت حتى في القليل من قراءتنا، وبخاصة للصحافة المطبوعة.
عشرون عاماً حوّلت جيلاً من القراء إلى مستهلكين يشعرون أنّ ١٢٠ حرفاً، أنّ كلمات لا يتخطى عددها مساحة شاشة هاتفهم الذكي، كافية لجعلهم يعرفون. فباتت معركة المحررين اليومية في جريدة «المستقبل» – كما كل صحف العالم على ما أفترض – إيجاد عنوان لا يشعر القارئ أنه رآه في الليلة السابقة، على شاشة هاتفه الذكي، بين رسالة نصية من قريب أو صديق، ومقتطف فيديو غريب وإن مركّب، رافقه إلى وسادة نومه.
وعشرون عاماً، أنتجت في نهايتها جيلاً جديداً، تحوّل من قارئ إلى ناشر، يُنافس الصحف بأخبار ينشرها هو، ويبارز كتابها بآرائه هو، على وسائل التواصل الاجتماعي. جيل لم يعد يقبل أن يقف بينه وبين الخبر محرر محترف في التدقيق باللغة والمعلومات والمصادر، ولا كاتب اعتنق الفكر قضية قبل أن يجرؤ على إبداء الرأي. جيل بعض معرفته من ١٢٠ حرفاً، ينشر الخبر ويبدي الرأي عبر الفضاء الرقمي المفتوح، حتى لو اختلط الخبر بالشائعة ولم يتجاوز الرأي الغريزة.
حسناً، غداً، يبدأ جيل جديد. جيل بلا… «مستقبل» في طبعتها الورقية، وجيل ستنتهي معه، عاجلاً أم آجلاً، كل الصحافة المطبوعة. عشرون عاماً جديدة، تبدأ اليوم، ولن تتنتهي فيها المواجهة. وستبقى فيها «المستقبل»، هذه المرة على منصة رقمية، تتنافس فيها مع قرائها – الناشرين الجدد، تتأقلم مع الفضاء الجديد، وتواكب ثورات التكنولوجيا، والإتصالات، خدمة لثورتها الأصلية، لثورة من أطلقها أساساً، في مواجهة المشروع الأصلي لقتل وطن، لا يموت، بل يتأقلم ويصمد، ويبقى دائماً شاخصاً إلى … «المستقبل».