كتبت رلى موفّق في صحيفة “اللواء”:
في القراءة ذات الأبعاد الإقليمية والدولية، أن إيران أفرجت عن تأليف حكومة لبنان بعد تسعة أشهر من تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيلها كـ «بادرة حسن نيّة» تجاه الشركاء الأوروبيين على أبواب استحقاقين: الأول يتمثل بإطلاق آلية أوروبية خاصة للتعامل التجاري مع إيران باستخدام عملة غير الدولار، في خطوة التفافية على العقوبات الأميركية على طهران، فيما يرتبط الثاني بـ «مؤتمر وارسو» حول الشرق الأوسط الذي دعت إليه الولايات المتحدة، والمزمع عقده وفق وزير خارجيتها مايك بومبيو، في الثالث عشر من شباط الجاري.
الآلية الجديدة التي أعدّتها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأطلقت عليها تسمية «انستيكس» (أداة دعم المبادلات التجارية)، وسيصادق عليها الاتحاد الأوروبي، من شأنها أن تسمح لإيران بالمتاجرة مع شركات الاتحاد الأوروبي رغم العقوبات التي أعاد الرئيس الأميركي فرضها على طهران بعد انسحابه من الاتفاق النووي الذي اعتبره اتفاقاً سيئاً.
وإذا كانت هذه الخطوة من منظار الاتحاد الأوروبي تهدف إلى إنقاذ الاتفاق النووي، فإنها من المنظار الأميركي تحدٍ لمرتكزات استراتيجية ترامب حيال إيران. الردّ الأول جاء على لسان المتحدث باسم السفارة الأميركية في برلين بإشارته إلى أن بلاده تتابع عن كثب التقارير عن آلية «انستيكس»، مذكراً بكلام سيّد «البيت الأبيض» عن أن «الكيانات التي تواصل أي نشاطات خاضعة للعقوبات مع إيران تخاطر بالتعرّض لعواقب شديدة يمكن أن تشمل حرمانها من الوصول إلى النظام المالي الأميركي وقدرتها على إجراء التعاملات المالية مع الولايات المتحدة أو الشركات الأميركية».
واشنطن غير سعيدة بـ «تجليات تمرّد الحلفاء» على المقلب الآخر من الأطلسي. فالآلية المكوّنة من شركة مسجلة في فرنسا بتمويل من الدول الثلاث هي، في العمق، تعبير عن موقف سياسي، ذلك أن نجاحها مرهون بقرار الشركات التي تعلم علم اليقين أن أي خرق أو التفاف يضعها في عين العاصفة ويعرّضها للعقوبات، حيث لا ينفع معها موقف الدول التي تنتمي إليها أو تعمل فيها. ومن هنا، التعويل الأميركي على أن الخطوة الأوروبية لا تُضعف عملياً ضغوطها الاقتصادية على إيران، ولا تزال تمسك بزمام اللعبة، فضلاً عن أن عدداً كبيراً من الدول المنضوية في الاتحاد تسير في الاتجاه الأميركي نفسه حيال المسائل المتعلقة بالصواريخ البالستية، ودور إيران الإقليمي وأنشطتها المزعزعة للاستقرار.
لكن إطلاق الآلية الأوروبية لا يمكن إلا أن تراه إيران نجاحاً سياسياً لها، بغض النظر عن المفاعيل الاقتصادية له. وهي من هذه الزاوية ستعمل على مراكمة خطوات في هذا الاتجاه في خضم الحرب المعلنة عليها، والتي يأتي «مؤتمر وارسو» في سياقها.
فـ «مؤتمر وارسو» الذي دُعيت إليه سبعون دولة، في رأي متابعين أميركيين داعمين لرؤية ترامب، هو إطار مكمّل للقمة العربية – الإسلامية – الأميركية التي انعقدت في الرياض بين الرئيس الأميركي في أول زيارة له إلى الخارج منذ توليه الرئاسة و55 دولة عربية وإسلامية في أيار من العام 2017. والهدف من المؤتمر توسيع الدائرة ليشمل دولاً غربية وآسيوية وأفريقية لم تكن جزءاً من «قمة الرياض».
والأجندة التي حددها بومبيو كانت واضحة حين أعلن أن «القمة ستركز على الاستقرار في الشرق الأوسط والسلام والحرية والأمن في هذه المنطقة، وهذا يشمل عنصراً مهماً وهو ضمان ألا يكون لإيران تأثير مزعزع للاستقرار». إيران تعلم أنها المستهدف الأول، وهي من خلال فك أسر تأليف حكومة لبنان تلاقي شركائها الأوروبيين في منتصف الطريق. وقد تذهب في الفترة الفاصلة عن انعقاد مؤتمر وارسو إلى مبادرات أخرى من «حسن النوايا» من أجل تعزيز موقفهم حيالها، ومنحهم مزيداً من أوراق القوّة التي تُسهم في تخفيف زخم المسعى الأميركي الهادف إلى الخروج من وارسو بمروحة واسعة من التأييد الدولي لاستراتيجيته حول الشرق الأوسط وإيران ودورها السلبي في المنطقة.
مما لا شك فيه، أن إيران تراقب حجم الحضور والمشاركة في وارسو وماهية القرارات التي ستخرج عن المؤتمر. وكذلك يفعل الممتنعون عن المشاركة والمعترضون عليها والرافضون لها. لكن هذا أيضاً ما تراقبه واشنطن، لا بل هذا ما تهدف إليه، كما يقول لصيقون بالإدارة الأميركية. هؤلاء يذهبون إلى التأكيد بأن المؤتمر سوف يُقسّم العالم إلى «فسطاطين». ويجزمون بأن المؤتمر سيُعقد «بمَن حضر». وهو سيكون اختباراً حقيقياً للعالم، حيث سيؤدي إلى فرز واضح لا لبس فيه حول مسألة الشرق الأوسط وإيران، على غرار ما جرى حول فنزويلا.
لكن هذا الفرز يُعزّز موقف واشنطن بدل أن يُضعفها. هكذا على الأقل ينظر «الترامبيون» إلى المشهد، إذ يعتبرون أن الدول التي ستختار عدم الانخراط في الرؤية الأميركية حيال المنطقة، الهادفة إلى التوصل «لشرق أوسط آمن وإعادة إيران إلى داخل حدودها ووقف زعزعتها الاستقرار والأمن الدوليين»، لا يمكن أن يبقى التعامل معها من قبل دول المنطقة المعنية بالصراع الدائر، ولا سيما الدول الخليجية والعربية، على النحو الذي هو قائم اليوم، سواء تعلق الأمر بروسيا أو الصين أو أوروبا أو غيرها من البلدان التي تنسج معها علاقات اقتصادية وتجارية وصفقات ضخمة، ما يوحي بأن «مؤتمر وارسو» ينحو إلى تظهير التحالفات الجديدة على وقع عودة زمن القطبين!.