كتب نبيل خليفة في صحيفة “اللواء”:
يمرّ لبنان بمرحلة صعبة ومعقّدة وخطيرة في تاريخه تكاد في أي لحظة، أنْ تتحوّل من أزمة سياسيّة إلى أزمة مصيريّة. والخطير في الأمر أنّ المعنيّين بمعالجتها من رجال سياسة ودين ودنيا ليست لديهم، وبكل أسف، الرؤية الصحيحة للبنان بأبعادها اللاهوتية – الوطنيّة – والتاريخيّة والثقافية، وليست لديهم الجرأة وربّما المعرفة، لمواجهة الحقائق العلميّة التي ترسم مسار تاريخ الشعوب والأمم على ضوء علم الجيوبوليتيك المعاصر. ما يجري في لبنان اليوم هو تحدّ وجوديّ لبلد الأرز، للبنان الإنسان والكيان.
لهذا، وجدنا من المناسب، بل من الواجب، الردّ على الطروحات «البائسة» لمختلف الفئات والجهات، بطرح يتخطّى المظهر إلى الجوهر… ويبدأ بما ينبغي أن يبدأ به وهو ما أسميناه «البيان الماروني»! عشيّة ذكرى مار مارون!
ثلاثة عناوين تختصر هذه المقاربة في خطوطها العامّة:
أولاً: في المفهوم المارونيّ للبنان أو ما كان شارل مالك يشدّد عليه، ويبدأ منه وبه، وهو «النظرة الى لبنان في ذاته».
ثانياً: في جيوبوليتيك لبنان الدولة – الحاجز (Etat-Tampon).
ثالثاً: في الحلّ النهائيّ للبنان النهائيّ: التحييد !!
أولاً: في المفهوم المارونيّ للبنان
كان الموارنة من أقدم الجماعات التي اختارت لبنان موئلاً لها، أي منذ القرن الخامس، نازحة من شمال سوريا (توفي مار مارون عام 410م). وبفضل عوامل كثيرة: روحيّة ونفسيّة وجيو-سياسيّة، سنعود إليها، تمّ التفاعل بين الجماعة المارونيّة وأرضها الجديدة فتحوّل لبنان من مجرد موئل للموارنة إلى معقل لهم: كنيسةً وجماعةً وأمّةَ فلاحين! ومع الزمن تبلور المفهوم الماروني للبنان ضمن مبادئ وأسس واعتبارات، نشير إلى ثمانية منها:
1 – الحيويّة التي تطبع علاقة الموارنة بأرض لبنان. ويشدّد فريدريتش راتزل أبو الجيوبولتيك المعاصر على أن الشعوب تستمدّ هويّتها من علاقتها بالأرض التي تقيم عليها. وتقوى هذه العلاقة إذا كانت الأرض ذات أهميّة مركزيّة واستراتيجيّة ومصيريّة بالنسبة للجماعة. وهذه هي بالضبط طبيعة العلاقة بين الموارنة وأرض لبنان، الأرض – الوجود، الأرض – العيش، الأرض – الحريّة!
2 – الكيانيّة الدولاتيّة السيّدة والنهائيّة (Entité Etatique souveraine et définitive) بحدود مرسّمة جسّدها إعلان لبنان الكبير 1920، ما جعل المؤرّخ كمال الصليبي يقول بأن هذا الإعلان هو «إعلان انتصار المشروع الماروني»!
3 – الذاتيّة: بفضل لبنان وعت المارونيّة ذاتيّتها الخاصة فأدركت ذاتها وفي هذا مدخل لاستشعارها بهويّتها المميّزة وبالتالي الاهتمام بكتابة تاريخها وتاريخ الشعوب المحيطة بها: من البطريرك الدويهي إلى المطران الدبس إلى الخوري بطرس ضو!
4 – التنوّعيّة: لبنان الموارنة هو حصن لهم ولكنّه في الوقت عينه بلد الانفتاح على الآخر، بلد التعدّديّة والتفاعل الخلّاق (Diversité créatrice) دينيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً. لذا لم يعمّد الموارنة جبل لبنان بإسم «جبل الموارنة»، بل إنّه أرض الأقليّات (ميشال شيحا) و»جبل الحريّة»!.
5 – الميثاقيّة: كل جماعة تختار لبنان موئلاً تكون مسبقاً جماعة ميثاقيّة لأنّها تدرك مسبقاً لماذا تختار لبنان وما الذي تطلبه منه وفيه، وهو ما يسمّيه ميشال شيحا «الجماعات المتشاركة» (Les communautés associées): في الأرض والعيش والحياة والمصير! إنّ الخروج على الميثاقيّة هو خروج على معايير مبادئ وأنظمة الحياة المشتركة. وفي كلّ مرحلة تخطّت إحدى الجماعات هذه المعايير وضعت نفسها والنظام في مأزق: من المارونيّة السياسيّة إلى السنيّة السياسيّة إلى الشيعيّة السياسيّة!
6 – الحريّة: تمسّك الموارنة بلبنان كونه الحصن المنيع لحريّتهم: الدينية والاجتماعية، ليس لهم فقط بل لجميع ساكنيه وقاصديه. فإذا لم يكن لبنان كذلك فلا معنى لوجوده. «فالموارنة يضعون في أساس تاريخهم الهرب من الاضطهاد والبحث عن الحرية. فوجدان كلّ مارونيّ يولد من هذا المعنى (المطران حميد موراني).
7 – الرمزيّة: في وعي ولاوعي الموارنة، لبنان هو البلد – الرمز للمارونيّة فوق أرضه وفي جميع أنحاء العالم. إنّه الواقع الجغرافيّ المعبّر عن روحيّة شعبه وقيمه العليا وتوجّهه العامودي في رؤية الله من فوق سطوح الكنائس والمعابد المنتشرة على قمم جباله منذ أكثر من 1500 سنة.
8 – الرساليّة: لقد صنّف البابا يوحنا بولس الثاني لبنان بأنّه «البلد – الرسالة». هذا يعني بوضوح أن لبنان ليس مجرّد بلد كبقية بلدان العالم، بل هو بلد يمثّل رسالة للإنسانيّة كلها، ولاسيّما للحياة المشتركة المسيحيّة – الإسلاميّة بأبعادها الدينيّة والحضاريّة والثقافيّة. إنه نموذج مختصر لمنظمة الأونيسكو وللأمم المتحدة تتحقق فيه ومن خلاله القيم الإنسانية الثلاث: الثقافة والازدهار والسلام وهو ما تسعى إليه الإنسانيّة في القرن الحادي والعشرين.
في ضوء هذه الأسس يمكن تعريف الجماعة المارونيّة بأنّها: «حركة مسيحيّة روحيّة ثقافيّة تأسيسيّة مشرقيّة تجدّديّة أطلقها القديس مارون، وهي تجسّد شوق الإنسان المطلق إلى الله وتوقه المطلق إلى الحرية ودوره الإنجيليّ الثقافيّ في خدمة محيطه ترقّياً وانفتاحاً، وعندها إنّ التنسّك هو الطريق الأقرب عموديّاً إلى الله، وان أرض لبنان ذات معنى رمزيّ إذ هي دون غيرها وقبل غيرها شكّلت أرض ميعاد المارونيّة ومعقل وجودها وحرّيّتها في آن» (نبيل خليفة).
ثانياً: في جيوبوليتيك لبنان: الدولة – الحاجز(Etat-Tampon)
في الخمسينات من القرن الماضي صدر في فرنسا كتاب للمفكّر جان غوتمان (Jean Gottman) بعنوان: «La politique des Etats et leur géographie «سياسة الدول وجغرافيّتها»، وواضح من هذا العنوان أن رسم سياسة الدول بشكل دقيق وصحيح وعلميّ لا يتمّ إلا بالعودة إلى جغرافيا الدولة كمعيار أوّل ومقياس جوهريّ لبلورة هذه السياسة، ذلك أن الجغرافيا هي العنصر الأكثر ثباتاً وتأثيراً في مسار الدول، والأكثر أهميّة في تصنيفها على لائحة دول العالم. فإذا حاولنا أن نتبيّن ذلك بالنسبة للبنان، ماذا نجد؟
1 – إنّه في موقع الوسط على الشاطئ الشرقيّ للمتوسّط، و«بيبلوس» هي نقطة المركز في الدائرة!
2 – إنه بلد صغير مساحةً متنوّع سكاناً ومستطيل شكلاً.
3 – إنه من أكثر البلدان عطوبيّة أمنيّة (vulnérable) إذ ان مساحته مقسومة على طول حدوده: 10452 م.م. ÷ 679 = 15,39، وهي من أدنى النسب في العالم، بحيث أن مدفعاً ميدانياً يمكن أن يقصف بيروت من السلسلة الشرقية على الحدود السوريّة!
4 – إنّه يتمتع بثروات سياحيّة ومائيّة أضيف إليها مؤخراً ثروات نفطيّة وغازيّة.
5 – إنه بلد ذو أهمية استراتيجيّة بحيث «تلتقي فيه استراتيجيات العالم»، على حد قول رومانو برودي رئيس وزراء إيطاليا.
6 – في لائحة التصنيف الدولي للأمم، يصنّف لبنان دولة – حاجزاً (Etat-Tampon) بين سوريا وإسرائيل ولكل من الدولتين مطامح ومطامع إقليميّة في لبنان وسواه. ففي رؤية البلدين أن قيام لبنان هو خطأ جغرافيّ وتاريخيّ وليس حقيقةً جغرافيّة وتاريخيّة. ذلك أن قيام لبنان الكبير فيه نقض لفكرة إسرائيل الكبرى ولفكرة سوريا الكبرى. ولذلك من مصلحة الدولتين أن تسهما في إضعافه تمهيداً لإلغائه: سياسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً وثقافيّاً. انطلاقاً من ذلك، قال ميشال شيحا تعبيره الشهير: «لبنان بلد يعيش على حدود الخطر الدائم». فسوريا ترفض أن ترسّم معظم حدودها مع لبنان (300 كلم) تعبيراً عن عدم اعترافها به دولةً سيّدة حرّة مستقلّة ونهائيّة. وإسرائيل تسعى للتلاعب بحدودنا البريّة المرسّمة مع فلسطين منذ العام 1923، كما تسعى لفرض حدود بحريّة معنا تسمح لها بسرقة كميات من نفطنا وغازنا في المتوسّط.
ثالثاً: في الحلّ النهائيّ للبنان النهائي: التحييد !
يشدّد علم الجغرافيا السياسيّة على معنى وأهميّة وجود دول – حاجزة في مختلف أنحاء العالم وخاصة بين قوى متواجهة كبرى أو إقليميّة:
أفغانستان بين أمبراطوريّة البحر البريطانية – الهنديّة، وروسيا.
لبنان بين النفوذين البريطاني والفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى حيث اقترح الإنكليز عام 1919 حياد لبنان وبعد قيام إسرائيل تحوّل لبنان إلى دولة – حاجز بين سوريا وإسرائيل.
سويسرا بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا.
بلجيكا (ومن ثم اللوكسمبورغ) بين فرنسا وألمانيا.
بولندا بين المانيا وروسيا.
فنلندا بين روسيا والسويد.
إنّ نشوء هذه الدول الحاجزة، وفي بعض الأحيان إنشاؤها (بتخطيط بريطاني) كان الهدف منه أمرين:
1 – وضع حاجز فاصل بين القوى المتواجهة (أمبراطوريات أو دولاً)
2 – منع الاحتكام المباشر في ما بينها وبالتالي تحقيق الأمن على حدودها.
ومع الزمن، بدأت هذه الدول الحاجزة تثبت أهميّتها الدوليّة من أنّها عامل استقرار ونموّ في الحياة الدولية وعامل مساعد على تحقيق السلام، وهذا هو معنى التوافق بين حلف الأطلسي وحلف وارسو على تحييد (neutralisation) دولة النمسا لمنع الاحتكاك بين الاتحاد السوفياتي والغرب. هكذا تحوّل حياد الدولة – الحاجز من وسيلة إلى حاجة فإلى حلّ مع الإشارة إلى أمرين:
الأول: ان حياد الدولة يتمّ بناءً لرغبة شعبها ونموذجها سويسرا.
الثاني: إن تحييد الدولة يتمّ بناءً لرغبة الأسرة الدوليّة ممثّلةً بمجلس الأمن الدولي الذي يفرض نظام الحياد الدولي الدائم عليها ونموذجها النمسا بعد الحرب العالميّة الثانية، وبهذا المعنى يصبح أمن هذه الدولة من مسؤوليّة الأمم المتحدة وتصبح خارج الأحلاف العسكريّة والتجاذبات الإقليميّة !
لبنان بين الحياد.. والتحييد!
لن يكون هناك إجماع شعبي على طلب حياد لبنان نظراً لوجود جهات وأحزاب وحركات ومنظّمات مرتبطة بقوى ودول خارجيّة إيديولوجيّاً وسياسيّاً ودينيّا ومادياً. وهي لن تقبل بحياد لبنان وستواجه هذا الطرح.
يبقى الأمر الآخر، أي الحل الوحيد للبنان وهو تحييد لبنان الدولي بقرار من الأسرة الدولية وبسعي ودعم من الجامعة العربيّة. ومثل هذا الأمر يقتضي الاقتناع بهذا الحل أولاً والالتزام به ثانياً، وبذل مجهودات كبرى لإقناع الأسرة الدوليّة بضرورة اتخاذ مثل هذا القرار ثالثاً. فما هي المبرّرات التي يقدّمها لبنان للأسرة الدوليّة لإقناعها بتحييده باعتبار هذا الخيار هو الحلّ الوحيد والنهائي للبنان النهائيّ؟
1 – اذا بقي لبنان على ما هو عليه فسيكون فريسةً سهلةً لجيرانه ونقطة تفجير للمنطقة!
2 – إن وضعه تحت المظلة الدوليّة هو الضامن الوحيد لاستقراره وازدهاره واستمراره خدمةً له وللإنسانيّة جمعاء.
3 – إنه بلد جدير وربّما الأكثر جدارة بهذه الضمانة الدوليّة والرعاية الأمميّة باعتباره نقطة الحرب والسلم في الشرق الأدنى.
4 – وهو البلد الذي قدّم، ولا يزال يقدّم، الإسهامات الكبرى في مسار الحضارات والثقافات والأديان انطلاقاً من فلسفة الألفباء الفينيقيّة في بيبلوس إذ ليس المهم أن نفخر بأن الألفباء نشأت في بيبلوس، بل في تفسير وتبرير أسباب نشوئها هناك والروحيّة الفنيّة التي قُدّمت بها إلى العالم فصارت القاعدة الأولى التي قامت عليها معظم حضارات الشعوب.
5 – كون لبنان موقعاً مركزياً في المنطقة التي وصفها فريدريتش راتزل بأنها «المنطقة التي تميّزت بقيم جيو-سياسيّة ثابتة ومستمرّة عبر التاريخ».
6 – كون وطن الأرز ضرورة حضارية للإنسانيّة جمعاء ومكاناً لالتقاء الأديان وحوار الحضارات والشعوب.. إنّه «البلد-الرسالة»!
في الخلاصة، هناك حلّ وحيد ونهائي وموضوعي للاحتفاظ بلبنان النهائي: إنّه حلّ التحييد الدولي الدائم الذي يعصمه من أن يبقى مهدّداً في أمنه وكيانه ومصالحه وشعبه ومصيره. ومثل هذا الحلّ ليس اجتهاداً شخصيّاً أو حزبياً أو طائفياً (مارونياً) أو فئوياً أو وجهة نظر لجهة معيّنة، كائناً من كانت هذه الجهة.
إنّه خلاصة لعلم الجغرافيا السياسية ومعيار تصنيف الدول في العالم وتعيين الحلول المناسبة لها انطلاقاً من واقعها الجيو-سياسي. لذا، فإن المهمة الأساسية للمسؤولين اللبنانيين، لاسيما الموارنة، كونهم من أقدم دعاة وبناة وحماة الكيانيّة اللبنانيّة، أن يعملوا مع الجميع لتحقيق هذا الهدف الضامن لاستمرار لبنان كما رأوه وعملوا له واستشهدوا من أجله!
.. أجل، يجب أن تتوقّف عندنا ولدى الموارنة خاصة، الثرثرة السياسيّة كي نواجه جدّية التاريخ!!