كتبت فيفيان عقيقي في صحيفة “الأخبار”:
يقول المثل الشعبي «يا رايح كتّر الملايح». لكن هذا لا ينطبق على وزير الاتصالات السابق جمال الجرّاح، الذي أصدر قبل أسابيع من مغادرته وزارة الاتصالات قراراً يتعدّى فيه على صلاحيات مجلس الوزراء، ويقضي بتجديد عقود تشغيل شبكتَي الخلوي المملوكتين من الدولة اللبنانية. ولم يكتفِ الجرّاح بذلك، بل أدخل تعديلات جوهرية عليهما تنزع كامل صلاحياتهما وتحصرها بشخص وزير الاتصالات، ليصبح بحكم الممارسة والنصّ، المتحكّم الوحيد، من دون أي رقيب أو حسيب، بموارد هذا القطاع الذي يعدّ مصدر الإيرادات الثالث للدولة اللبنانية
يوم 31/12/2018، أصدر الوزير جمال الجرّاح منفرداً ومن دون العودة إلى مجلس الوزراء، القرارين الرقم 418/1 و419/1، يمدّد فيهما «عقدَي إدارة شبكتَي الهاتف الخلوي في لبنان مع شركتي أوراسكوم وزين، لمدة 3 أشهر تبدأ في 1/1/2019 وتنتهي في 30/3/2019، على أن تكون تحت إشراف الوزير المباشر ورقابته وفقاً للأنظمة المعمول بها، باستثناء البند الرقم 7.3.2 d(ii) من العقد المنتهي المدّة، بحيث يعتبر هذا البند لاغياً وكأنه لم يكن، ومع التأكيد على موجب عدم التصرّف بالمواضيع الأساسية من دون الحصول على موافقة الوزير المسبقة والخطّية، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر، الاستثمارات والمصاريف التشغيلية والهيكلية التنظيمية والرواتب والمكافآت والترقيات والتوظيف».
ينص البند المُلغى على إلزامية إطلاع هيئة مالكي قطاع الخلوي المؤلّفة من مجموعة من الاستشاريين الذين يعيّنهم وزير الاتصالات لمراقبة كيفية العمل في القطاع، على مشاريع العقود الجديدة التي تبرمها الشركتان وتزيد قيمتها على 50 ألف دولار، فضلاً عن العقود القديمة المُراد تعديلها أو تمديدها، وذلك بغية تقويم هذه العقود والحصول على موافقة الهيئة المُسبقة والخطّية عليها أو رفضها، خلال 15 يوماً، مع اعتبار عدم إبداء الرأي فيها بمثابة موافقة ضمنية على المشاريع. أمّا فرض موافقة الوزير المُسبقة والخطّية على كلّ المواضيع المتعلّقة بإدارة القطاع، بما فيها الاستثمارات والمصاريف التشغيلية والهيكلية التنظيمية والتوظيف والرواتب، فيعدّ بمثابة انقضاض على روحية العقود التشغيلية المُبرمة مع الشركتين اللتين فوّضتهما الدولة اللبنانية الحلول مكانها وتحمّلهما كامل المسؤوليات المتعلّقة بالإدارة وتقديم الخدمات وتسيير القطاع، وبالتالي تحوّلهما إلى مجرّد كيانين مسلوبين كلّ صلاحيات التصرّف والإدارة واتخاذ القرارات المفترض اتخاذها، ولكن مع استمرار تقاضيهما بدلات الأتعاب والأرباح، المُقدّرة بنحو 20 مليون دولار سنوياً، من دون القيام بأي عمل فعلي.
تجاوز حدّ السلطة
ينطوي القراران الصادران عن الجرّاح على مخالفات للقوانين المرعية التي تحكم قطاع الاتصالات، وقد شكّلا موضوع مراجعة إبطال أمام مجلس شورى الدولة، للمطالبة بوقف تنفيذهما. وقالت مصادر قضائية إن المتقدّم بالمراجعة هو وسيم منصور، بصفته مساهماً في شركة «ميك 2» (الشركة التابعة للدولة، والتي تملك الشبكة التي تشغّلها شركة «زين تاتش»)، وعلماً أنه كان أحد مدرائها السابقين. في الواقع، يتعارض قرارا الجراح مع قانون الاتصالات الرقم 431/2002 الذي أعطى مجلس الوزراء صلاحية منح تراخيص الهاتف الخلوي والترخيص لمقدّمى خدمات الاتصالات، كون التردّدات اللاسكلية هي من ممتلكات الدولة. إلّا أن الجرّاح تجاوز حدّ السلطة الممنوحة له، بإصدارهما من دون الحصول على إجازة من مجلس الوزراء، مجيزاً لنفسه ولوزير الاتصالات الذي خَلَفَه، صلاحيات مُنِحت أساساً للشركتين المشغّلتين بموجب مرسوم صادر عن الحكومة. فضلاً عن ذلك، يتعارض مع استشارة صادرة عن هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل، سبق أن طلبها الوزير السابق بطرس حرب عندما كان وزيراً للاتصالات في حكومة لتصريف الأعمال للوقوف على رأيها في صلاحيته بتمديد عقود شركتَي الخلوي المنتهية الصلاحية، والتي جاء فيها تأكيد على «عدم صلاحية أي مرجع وخصوصاً وزارة الاتصالات حق الحلول مكان الحكومة، حتى ولو كانت بحكم المستقيلة، في أعمال إدارة قطاع شبكتَي الخلوي وتشغيله، ويعود لوزير الاتصالات فقط أن يوجّه كتاباً إلى مجلس الوزراء لاتخاذ القرار الذي يراه مناسباً لإدارة تشغيلهما، إمّا عن طريق تكليف وزارة الاتصالات بالإدارة والتشغيل، وإمّا عن طريق تمديد مهلة العقدين السابقين، وإمّا عن طريق الدعوة إلى إجراء مزايدة عامّة».
التحوّلات في قطاع الخلوي
يأتي هذان القراران استكمالاً لسلسلة من التحوّلات التي عرفها هذا القطاع، وتتماشى مع النهج السائد في إدارته، بعدما تحوّل وفقاً لمصادر مطّلعة إلى «مورد لتمويل عملية الإنفاق الزبائني وتحاصص المشاريع الاستثمارية بالتواطؤ مع الشركات المشغّلة، وهو ما يفسّر سكوتها عن انتزاع صلاحياتها، وذلك نظراً إلى الإيرادات العالية التي تتحقّق فيه بسبب أسعار الاتصالات المُرتفعة والتي تنطوي على مكوّنات ضريبية وشبه ضريبية وتقدّر بنحو 7 مليارات دولار بين عامي 2012 و2016، فضلاً عن تحوّلها إلى مصدر لخدمة الوظيفة الأمنية للدولة بحيث باتت كلّ الجهات الأمنية، بحكم الأمر الواقع البوليسي، تملك نفاذاً وولوجاً إلى مستندات المستخدمين وبياناتهم».
في الواقع، يشكّل عام 2012 مفصلاً محورياً في كيفية إدارة هذا القطاع، فبعدما لجأت الحكومة عام 2004 إلى التعاقد مع شركتين (زين الكويتية وفالديتي الألمانية التي حلّت محلها أوراسكوم المصرية عام 2009) لإدارة الشبكتين وتشغيلهما، وكانت الدولة تدفع مبلغاً سنوياً ثابتاً بموجب العرض الذي قدمته كلّ شركة لمجمل مصاريفها التشغيلية، وفازت على أساسه بالمناقصة، على أن تتشكّل أرباحها من الوفر الذي تحقّقه من هذا المبلغ. قامت عام 2012 مع انتهاء فترة التعاقد الثانية مع الشركتين، بتعديل شروط العقود، بحيث ألغي السقف المالي للمصاريف التشغيلية التي كانت الشركتان تدير عملية إنفاقها، وحوّلت إلى إشراف الوزير ليتحكّم بالإنفاق الاستثماري والإنفاق التشغيلي وما يترتب عنهما من تلزيم مشاريع وتوظيف ومنح امتيازات من دون مراقبة أو محاسبة، بما أدّى إلى تضخّم النفقات بنسبة 192% بين عامي 2011 و2016.
ونتيجة ذلك، لم تعد الشركتان مسؤولتين عن المصاريف، ولا تملكان أي قرار في إدارة القطاع، وبالتالي لا تقومان بأي مهمات تشغيلية، بل تحوّلتا بموافقتهما إلى مجرّد واجهة. وعلى الرغم من ذلك، يتم التجديد لهما دورياً، من دون إجراء أي مناقصة، لفترات تمتدّ من أشهر إلى سنة، وتُمنَحان رسماً ثابتاً بنحو 10 ملايين دولار لـ«زين» و7 ملايين دولار لـ«أوراسكوم»، فضلاً عن مبالغ أخرى بوصفها أرباحاً مُستحقّة متأتية من المشاريع الملزّمة. وتجدر الإشارة إلى أن موظفي «ألفا» و«تاتش» هم موظفون في الشركتين اللتين تملكهما (بصورة غير مباشرة)، الدولة اللبنانية، وليسوا موظفين في «أوراسكوم» و«زين» اللتين تكتفي كل منهما بتعيين مدير تنفيذي لكل شركة. بمعنى أوضح، يمكن القول إن «أوراسكوم» و«زين» تتقاضيان نحو 17 مليون دولار سنوياً بدل أتعاب في مقابل عمل موظّف واحد في كل شركة.
تبعات قرارَي الجرّاح
تفسّر المصادر نفسها القرارين بكونهما «الاعتراف الخطّي الأوّل لنهج مستمرّ منذ عام 2012 وقائم على الهدر والإنفاق في قطاع الخلوي غير المحكوم بأي مراقبة أو مساءلة، أي أنه اعتراف بعدم جدوى شركتَي تشغيل قطاع الخلوي وتحوّلهما إلى مجرّد غطاء لعمليات الإنفاق والصرف والتوظيف والمحسوبيات ومنح الامتيازات التي يتحكّم بها وزير الاتصالات منذ عام 2012». فضلاً عن تثبيت واقعة أن «الوزير هو القطاع بنفسه من دون وجود أي هيئة رقابية على الإنفاق الذي يتحكّم به، وإلغائه صلاحيات هيئة المالكين المفترض أنها هيئة تعمل لمصلحته وتقدّم له الاستشارات حول كيفية عمل القطاع، فيما موافقة الشركتين على القيام بهذا الدور أي التحوّل إلى واجهة لإخفاء الهدر، تكمن ببدلات الأتعاب المجّانية التي تتلقاهما من دون القيام بأي عمل فعلي، والأموال التي تحصل عليها بوصفها أرباحاً مستحقّة».
4.3 مليارات دولار… ضرائب غير مباشرة
بين عامي 2012 و2016، أنفق مستخدمو الخلوي في لبنان نحو 7 مليارات دولار على استهلاك الخدمات المُتاحة عبر شبكتي الهاتف الخلوي، أي بمعدّل وسطي يبلغ 1.4 مليار دولار سنوياً. إلا أن وزارة الاتصالات، التي تمتلك هاتين الشبكتين نيابة عن الدولة، أنفقت 2.3 مليار دولار على تشغيل الشبكتين وتحديث التجهيزات وتطوير الخدمات وتنويعها، أي أن المستهلك أُجبِر على تسديد أسعار واشتراكات ورسوم وضرائب أعلى بـ 3 مرّات ممّا أنفقته الوزارة على توفير الخدمات مقابل هذه الأسعار، وهذا يُعدُّ دليلاً على أن الحكومة تتعامل مع «قطاع الخلوي» بوصفه ضريبة غير مُعلنة، في حين أن الطريقة التي يتمّ عبرها التصرّف بإيرادات هذه «الضريبة» تُبيّن أن قسماً مهمّاً منها يُستخدم لتمويل مشاريع ومقاولات و«نشاطات» من خارج الموازنة العامّة وبعيداً عن أي رقابة، وفي حالات كثيرة بتوقيع من الوزير وحده.