تعتبر الطائفة المارونية، الطائفة المسيحية الوحيدة في العالم التي تحمل اسم شفيعها. وتعود بجذورها الى القديس مارون الراهب الذي تنسك على جبل سمعان الواقع قرب مدينة حلب في شمال سوريا
يقول الدكتور فيليب حتي: مارون لفظة سريانية، هي تصغير “مارو” ومعناه السيد والمولى والتصغير هنا للتحبب.
عاش القديس مارون في القرن الرابع (350 – 410)، ونقل أخباره تيودوريطوس أسقف قورش الذي كان معاصراً ومجاوراً له، في كتابه “تاريخ الرهبان والنساك”. وأسماه في الكتاب “مارون الإلهي”.
يقول تيودوريطس: لقد زّين مارون، طغمة القديسين المتوحشين بالله، ومارس ضروب التقشفات والأماتات تحت جو السماء، دون سقف سوى خيمة صغيرة لم يكن يستظلها إلا نادراً. وكان هناك حيث تنسك هيكل وثني قديم، فكرسه وخصصه لعبادة الإله الواحد، يحيي الليالي بذكر الله واطالة الركوع والسجود والتأملات في الكمالات الإلهية، ثم ينصرف إلى الوعظ وارشاد الزائرين وتعزية المصابين. ولأن المجاهد يوازن بين النعمة والأعمال فيكون جزاء المحارب على قياس عمله، وبما أن الله غني كثير الاحسان إلى قديسيه منحه موهبة الشفاء فذاع صيته في الأفاق كلها فتقاطر اليه الناس من كل جانب، وكانوا جميعهم علموا أن ما اشتهر عنه من الفضائل والعجائب هو صحيح. وبالحقيقة كانت الحمّى خمدت من ندى بركته والأبالسة أخذوا في الهرب، والمرضى كلهم برئوا بدواء واحد هو صلاة القديس، لأن الأطباء جعلوا لكل داء دواء، غير أن صلاة الأولياء هي دواء شاف من جميع الأمراض, ولم يقتصر القديس مارون على شفاء أمراض الجسد بل كان يبرئ أيضاً أمراض النفس.
وكتب القديس يوحنا فم الذهب من منفاه في جبال أرمينيا رسالة إلى القديس مارون عابقة بما بين القديسين من محبة روحية واحترام وأخوة في المسيح جاء فيها: الى مارون الكاهن الناسك، ان رباطات المودة والصداقة التي تشدنا اليك، تمثلك نصب عينينا كأنك حاضر لدينا، لأن عيون المحبة تخرق من طبعها الأبعاد ولا يضعفها طول الزمان. وكنا نود أن نكاتبك بكثرة لولا بعد الشقّة وندرة المسافرين الى نواحيكم. والآن فانا نهدي إليك أطيب التحيات ونحب أن تكون على يقين من أننا لا نفتر عن ذكرك أينما كنا. لما لك في ضميرنا من المنزلة الرفيعة. فلا تضنّ أنت أيضاً علينا بأنباء سلامتك، فان أخبار صحتك تولينا على البعد أجل سرور وتعزية في غربتنا وعزلتنا فتطيب نفسنا كثيراً، اذ نعلم أنك في عافية. وجلّ ما نسألك أن تصلي إلى الله من أجلنا.
ما أن انتشرت سمعة الكاهن مارون الناسك حتى تكاثر عدد الرهبان حوله. فأقامهم أولاً في مناسك وصوامع على الطريقة الانفرادية بحسب عادة تلك الأيام، ثم أنشأ لهم أدياراً وسنّ لها القوانين. وتعددت تلك الأديار في شمالي سوريا، حتى أن تيودوريطس يغتبط بوجودها في أبرشيته.
لم يذكر تيودوريطس سنة وفاة القديس مارون، ولم يعثر في كتب القدماء على ما يعين في ذلك، والذي رواه العلامة البطريرك بولس مسعد في كتابه الدرّ المنظوم أنه لقي ربه سنة 410.
وجاء في المعجم التاريخي الجغرافي لبويليا في طبعته الحادية والثلاثين: القديس مارون ناسك ورع كان في سورية في القرن الخامس رقي الى درجة الكهنوت سنة 405 وتوفي سنة 433 وتنسك على جبل قريب من قورش واستدعى اليه جمعاً كبيراً من التلامذة فأنشأوا أدياراً عديدة ويعيّد لذكره في 9 و14 شباط وهذا ما ذكره أيضاً المطران يوسف الدبس، رئيس أساقفة بيروت الماروني، في كتابه: الجامع المفصل في تاريخ الموارنة المؤصل.
بعد وفاة القديس مارون عاشت أول جماعات مارونية في شمال سوريا قرب أفاميا حول دير القديس مارون على العاصي، ولاحقاً انتشروا في عدة أماكن من شمال سوريا، خاصة معرّة النعمان وحماه وحمص وبعض المؤرخين يؤكدون وجودهم في عدة أماكن سورية شمالية أخرى كمنبج وقنسرين وناحية العواصم، ومن المحتمل وجودهم في مدينة انطاكية وجوارها لأنها كانت تعد عاصمة تلك النواحي وفيها تدخل مدينة قوروش المتكرر ذكرها في ترجمة القديس مارون.
وتؤكد عدة مراجع أبرزها الأب بطرس ضو أن قسماً من رهبان مار مارون ساروا باتجاه منابع نهر العاصي المحاذي لصوامعهم وأديارهم، وتنسكوا عند منابعه، ومنهم أحد الرهبان الذي تنسك في مغارة ما تزال موجودة تقع قرب بلدة الهرمل شمال البقاع اللبناني.
وبحسب الأب بولس ضاهر، في كتابه السنكسار بحسب طقس الكنيسة الإنطاكية المارونية: أول من دخل جبال لبنان من الموارنة، فكان عدد من “أبناء مارون” في الربع الأول من القرن الخامس، الذين أرسلهم القديس مارون ليبشروا سكان جبال لبنان، فوصلوا الى نواحي جبة بشري وجرود البترون وجبيل، وأهمهم مار سمعان العامودي الكبير المتوفي سنة 459 الذي وصل إلى قرى شمال لبنان، وكانت الوحوش تفترس أهلها، فعمّدهم وأمرهم أن يرسموا 7 صلبان حول كل قرية، فنجوا. وكانوا هم من الموارنة الأوائل المقيمين في لبنان
ومن التلامذة أيضاً الذين وصلوا الى جبل لبنان ابراهيم القورشي الناسك، الذي بشّر في جرود بلاد جبيل التي كانت تعرف بجبة المنيطرة، وكانت من أهم المناطق الوثنية في الشرق، فأخذ يجوب قراها يبشر بكلمة الله فهدى الكثير من الوثنيين ودخل إلى معبد أدونيس الوثني الموجود ناحية أفقا وحوله كنيسة وكوّن نواة جماعة مارونية في تلك النواحي، وأطلق اسمه على نهر أدونيس الذي أصبح يعرف باسم نهر إبراهيم.
من هنا يمكننا أن نعتبر أنه من سكان جبال لبنان، الذين اهتدوا على يد تلاميذ القديس مارون، وبعضهم كانوا مسيحيين سريان، تشكلت الطائفة المارونية في لبنان، وعاد وانضم إليها الرهبان الموارنة وأتباعهم الذين هربوا من شمال سوريا، وهذا ما يؤكده الأب بطرس ضو في تاريخ الموارنة الديني والسياسي والحضاري، بقوله: معظم الموارنة هم سكان لبنان الأصليين، وانضمت إليهم فيما بعد، وعلى دفعات متقطعة، أفواج من الموارنة النازحين من سوريا
على أثر المجمع الذي عقد في مدينة أفسس عام 449 بدأت الخلافات اللاهوتية في الكنيسة حول طبيعة المسيح الجسدية والالهية، وتوسعت بعد مجمع مدينة خلقيدونيا الواقعة على البوسفور المنعقد سنة 451 فانقسمت الكنيسة إلى “الخلقيدونيين” وهم الروم البيزنطيين والسريان الموارنة الذين يؤمنون بأن في المسيح طبيعتين كاملتين “الهية وإنسانية”، والى “اليعقوبية” ومنهم السريان اليعاقبة أتباع يعقوب البرادعي أسقف انطاكيا الذين يؤمنون بأن في المسيح طبيعة الهية واحدة.
هذا الاختلاف أحدث تنافساً على كسب النفوذ في شمال سوريا. فاضطهد اليعاقبة بقيادة البطريرك ساويرس بتغطية من الأمبراطور البيزنطي اثناسيوس الموارنة، وقتلوا منهم في 31 تموز سنة 517 ثلاثماية وخمسين راهباً مارونياً دفعة واحدة وأحرقوا ديرهم القائم عند نهر العاصي جنوب حلب. ف
تشتت من نجا من المذبحة ولجأ قسم كبير منهم ومن أتباعهم موارنة شمال سوريا إلى أخوتهم في جبال لبنان الذين كانوا أصبحوا كثر، ووصلوا أولاً إلى منابع العاصي ومنها توغلوا في الجبال فسكنوا نواحي أهدن والجبة وجبال البترون وجبيل، ويؤكد بعض المؤرخين أن قسماً منهم انحدر نحو الساحل ناحية البترون، ولعل مدينة البترون نفسها أضحت من أول مساكن الموارنة وهذا ما ذكره لأب لامنس، تسريح الأبصار.
نشير الى أن ساويرس هذا يعتبر قديساً عند السريان الأرثوذكس بينما تحتقره الكنيسة الكاثوليكية لأن يداه ملطختان بدماء القديسين والرهبان والنساك
على أثر تلك المذبحة، أرسل من نجا من الرهبان رسالة إلى قداسة الحبر الأعظم البابا هورميذداس أعلموه فيها بما جرى وأن ساويروس بطريرك البيزنطيين رفض احصاء الكاثوليك في عداد المسيحيين وقام بتدمير كافة الكنائس الكاثوليكية، “وقتل الكثير من رهباننا ويجبرنا على إحتقار المجمع المقدس، ونحن مشتتون البعض هرب إلى دير القديس سمعان في نواحي حلب والقسم الآخر إلى جبال لبنان العالية”. ووقع الرسالة رئيس الدير الناجي من المذبحة ويدعى اسكندر الذي ختم الرسالة بتوقيعه وبقربه هذه العبارة: “أنا الراهب إسكندر رئيس دير القديس مارون وقعت هذا الالتماس”. ووقع معه من نجا من الرهبان.
في 10 شباط 518 وصل الرد من البابا وفيه يشد من عزيمة الرهبان ويحثهم على الصمود والبقاء على الاعتراف بكنيسة روما.
يؤكد بعض المؤرخين، أن رهبان مار مارون المتنشرين في شمال سوريا، لعبوا دوراً دينياً وتبشيرياً هاماً، ما أدى إلى اضعاف سلطة بطريرك انطاكيا على المناطق التي يتواجدون فيها، ويمكن القول أن الموارنة كانوا يديرون مناطقهم بدلاً من البطريرك، وحتى بعد النكبة التي حلت بهم أكمل من نجا من المذبحة رسالته التبشرية، وتوسعت أديارهم حتى قاربت 40 ديراً، تحلقت حولها جماعات من المؤمنين الملنزمين العقيدة الخلقيدونية، ما دفع البطريرك الانطاكي افرام أميد (529 – 545) لتقريبهم إليه مستعيناً بعلمهم وخبرتهم اللاهوتية، وعندما زار الأمبراطور هرقل (610 – 641) سوريا وهب الرهبان الموارنة كل الأديار التابعة للمونوفيزيين، ويقول المؤرخ ابن العبري ان الامبراطور كان مارونياً.
اعتباراً من أواخر القرن السادس انتقل النشاط الماروني من شمال سوريا قرب حلب الى منابع نهر العاصي في منطقة بعلبك – الهرمل اللبنانية وجبال شمال لبنان، حيث انتشرت المارونية بكثافة ويؤكد البعض وصولهم إلى نواحي دمشق حيث بنوا ديراً هناك.
قد يكون من أسباب هذا الانتشار أن هذه المناطق عالية ووعرة ومن الصعب على الجنود القادمين من سهول القسطنطينية أو انطاكيا اختراقها بسهولة.
في تلك المرحلة، بدأت الهوية المارونية بالبروز وتبلورت مع ظهور عدد من الصلوات الخاصة بالموارنة.
في القرن السابع خرجت انطاكيا نهائياً عن سلطة القسطنطينية بعد أن اجتاحتها الجيوش الاسلامية سنة 636، وأصبحت المدينة من دون بطريرك وعمد الأساقفة في القسطنطينية إلى انتخاب بطريرك فخري لانطاكيا يقيم في القسطنطينية، لم يكن يمارس من مهامه شيئاً.
وبعد سيطرة الخليفة معاوية على بلاد الشام، سمح للمسيحيين الخلقودنيين الملكيين الذين يتبعون كنيسة روما برسامة بطريرك لانطاكيا فرسموا بطريركاً أقام قي دمشق وكان شرعياً كنسياً ودعي باسم ثيوكلفت، ولكن خليفة معاوية مروان ومن ثم عبد الملك منعوا انتخاب البطاركة. وكان البيزنطيون توقفوا قبل زمن عن رسامة البطاركة الفخريين لانطاكيا، وأضحت أحوال المسيحيين ضائعة من دون بطريرك.
في هذا الوقت، ورغم كل ما تعرضوا له، كان عدد الموارنة أصبح كبيراً وانتشارهم يمتد من سهول حلب وحمص شمالاً حتى قمم جبل لبنان نواحي نهر ابراهيم جنوباً، ولما كان كرسي انطاكيا شاغراً اجتمع الرهبان الموارنة عام 686 وانتخبوا الراهب يوحنا مارون، وكان أسقفاً على مدينة البترون منذ عام 675 بطريركاً على كرسي إنطاكيا. وهو أول بطريرك ماروني على كرسي انطاكيا والثالث والستون بعد القديس بطرس مؤسس الكرسي في القرن الأول ميلادي.
بهذا الانتخاب بدأ بناء وتنظيم الكنيسة المارونية على الصعيد الكنسي والوطني والاجتماعي.
عند انتخابه حاول البطريرك الماروني الأول العودة الى شمال سوريا، لكن المسيطرين هناك منعوه من الاقامة فعاد سريعاً إلى جبال لبنان حاملاً معه هامة القديس مارون، وحل في بلدة كفرحي في وسط بلاد البترون وشيد دير “ريش مارو” ومعناه رأس مارون، وضع فيه جمجمة القديس مارون وأقام فيه.
لم يكن هدف الموارنة عند انتخاب بطريرك منهم تأسيس كنيسة منفصلة عن الكنيسة الجامعة، بل تعبئة فراغ بعد شغور الكرسي البطريركي الانطاكي بوفاة البطريرك انستاز الثاني في أيلول 669 وبقاء الكرسي شاغراً. وحفظ الرعية من التشتت والارتهان والذوبان. وتسريع شؤون المؤمنين لأن روما بعيدة جداً عن الشرق.
لذلك فور انتخابه بطريركاً طلب البطريرك يوحنا مارون درع التثبيت من قداسة الحبر الأعظم خليفة القديس بطرس، فوافق البابا على الانتخاب وأرسل درع التثبيت، فأصبح البطريرك الماروني خليفة القديس بطرس في رئاسة الكنيسة الانطاكية. وراح البطاركة الموارنة يضيفون اسم بطرس إلى أسمائهم.
بقي الموارنة معتصمين في جبال لبنان الشمالية الممتدة من اهدن وجبة بشري إلى جبة المنيطرة، حتى وصول الحملات الصليبية، فهبطوا من جبالهم لملاقاتها. وكان اللقاء الأول في سهل عرقا في عكار، ومن هناك سار الفرسان الموارنة مع الحملة إلى مدينة القدس.
رغم التعاون الوثيق بين الصليبيين والموارنة، بقي الانتشار الماروني جنوب نهر إبراهيم محدوداً جداً، وبعد سيطرة المماليك في القرن الثالث عشر تعرض الموارنة لأبشع اضطهاد عرفوه في تاريخهم، لم ينج منه حتى بطاركتهم فعادوا يتحصنون على قمم الجبال.
مع دخول العثمانيين تغيرت أحوال الموارنة، ومطلع القرن الخامس عشر بدأوا بالتوسع نحو كسروان وكان انتشارهم فيها سريعاً حتى صارت المقاطعة الكسروانية في القرن السابع عشر كلها مارونية، وأكملوا جنوباً خصوصاً أيام حكم الأمراء المعنيين فنزلوا المتنين وحلوا في المناطق الشوفية ومنها توغلوا حتى وصلوا إلى شمال فلسطين وبر الشام.
حمل الموارنة طوال 1600 سنة من مسيرتهم عدة تسميات هي:
– أبناء مارون: وهم تلامذة واتباع القديس مارون الذين عاشوا في الصوامع والأديرة وانطلقوا يبشرون بكلمة الله.
– المارونية: أول من ذكر هذه التسمية المؤرخ العربي “المسعودي” في القرن العاشر.
– الأمة المارونية: تعود هذه التسمية إلى زمن الصليبيين.
– الطائفة المارونية: بدأ الكلام عنها في القرن السادس عشر وذكرها البطريرك الدويهي في كتاباته.
– الكنيسة المارونية: أتت على لسان قداسة الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني.
من جبال لبنان امتدت أغصان الدوحة المارونية إلى كل أنحاء العالم، ولكن بقي وطن الأرز ركيزة الكيان الماروني. وما زال الموارنة يستشفعون كل حين أباهم القديس مارون صارخين إليه:
باسمك دعينا يا أبانا وعليك وطّدنا رجانا
كن في الضيقات ملجانا واختم بالخير مسعانا