الحمدلله أن لبنان تجاوز قطوع استعراض بين نواب في جلسات مناقشة البيان الوزاري لحكومة كان محسوماً نيلها الثقة بأكثرية مريحة جداً منذ تشكلت، بفعل أنها حكومة وحدة وطنية، في نظام يُفترض أنه برلماني ديمقراطي، لكنّ القيّمين عليه أدمنوا إلغاء الديمقراطية فيه والمعارضة، حتى تحت سقف البرلمان!
قلت إن لبنان تجاوز “قطوعاً” لأن اللبنانيين، كشعوب لا كمواطنين، يدمنون منطق ردود الفعل على الكلام السياسي للنواب والمسؤولين، ولا يترددون في النزول إلى الشارع نصرة لهذا الزعيم أو ذاك، واحتراماً لهذا الشهيد أو ذاك، مع احترامنا وتقديرنا لجميع الشهداء والزعماء. ولكنهم، أي اللبنانيين، لا يدركون في العمق أنهم كمواطنين هم الشهداء الأحياء الفعليون في وطن لا يأبه مسؤولوه لواقع مواطنيه ومستقبلهم!
صحيح أن التطاول على رئيس الجمهورية الحالي أو رئيس جمهورية شهيد أمر مقيت ومنبوذ ومرفوض. وصحيح أن التطاول على أي مرجعية في البلد لزوم ما لا يلزم لأنه يوتر الأجواء بشكل مجاني ومن دون جدوى، لكن الصحيح والأهم أن ما يستحق تحرّك الشارع وانتفاضته العارمة هو الأوضاع الاقتصادية والمالية والبيئية والتربوية والصحية وفرص العمل والكهرباء والماء والهجرة وضمان الشيخوخة وحجم الضرائب وغيرها من المواضيع التي تغتال مستقبل الشباب والمواطنين، وتفقدهم أي أمل بمستقبلهم.
المضحك- المبكي في بلد كلبنان أن المصائب الاقتصادية والاجتماعية تطال كل فئات المجتمع الطائفية والمذهبية والعمرية والمناطقية من دون استثناء. فالكهرباء مقطوعة في كل المناطق وعلى كل الطوائف، والمياه غائبة عن كل المنازل ولا تميز بين ماروني وأرثوكسي وكاثوليلكي وسني وشيعي ودرزي وأقليات، وفرص العمل الغائبة تدفع الجميع الى الهجرة بحيث يتساوى الجميع من الشباب من أبناء كل المذاهب والأحزاب في الوقوف في طوابير أمام أبواب السفارات الغربية والخليجية استجداءً لفيزا بحثاً عن فرصة عمل ومستقبل آمن. وفي مقابل هذا الواقع المأسوي لا يتحرّك الشارع في لبنان، أو لنكن دقيقين لا تتحرك الشوارع في لبنان إلا خدمة لهذا الزعيم أو ذاك أو خدمة لهذا الحزب أو ذاك، أو إرضاء لعصبية هذا المذهب أو ذلك!
وكأن اللبنانيين على مختلف انتماءاتهم وعصبياتهم المفجعة يصرّون على أن يبقوا وقوداً في خدمة الصراعات السياسية والمذهبية والحزبية، ولو على حساب لقمة عيشهم ومستقبل أولادهم واستمرارهم في هذا الوطن!
ما جرى في مجلس النواب من رفع سقوف سياسية ليس الأول من نوعه ولن يكون الأخير حتماً، تماماً كما التراشق باتهامات الفساد والمحسوبيات الذي يتكرر في كل مناسبة للاستعراض أمام شاشات التلفزيون ووسائل الاعلام، ولكن المؤسف هو أن يتحرّك الشارع بشكل غرائزي فقط نصرة لشعارات، على أهميتها، لا تؤمّن فرصة عمل واحدة فتعفي لبناني من الهجرة، لا بل على العكس باتت هذه الشعارات وردود الشارع عليها تهدّد بتسعير الهجرة واليأس من بلد لا يعرف كيف يبني مستقبله ويصرّ على التخبّط في ماضيه وانقساماته خدمة لبقاء سلطة سياسية- طائفية- مذهبية يستحيل أن تستمرّ من دون وقود الشعارات الفارغة والرؤوس الحامية التي لا ينقصها غير شرارة لا سمح الله لتشعل الحرب من جديد!