Site icon IMLebanon

البرنامج السنوي للصفقات خطوة أولى نحو موازنة شفّافة

كتب د.حان العلية في صحيفة “الجمهورية”:

كي تتمكّن وظيفة الشراء العمومي من أداء مهماتها بكفاءة وفعالية، لا بد من اتّباع الأساليب والأسس العلمية في عمليات الشراء، لأنّ من شأن ذلك تحقيق أفضل استثمار للمال العمومي بما يؤمّن تقديم مستوى عالٍ من الأشغال والخدمات واللوازم للمواطنين.

ينطوي مفهومُ الشراء العمومي على دورة متكاملة تبدأ بالتخطيط وتمرّ بالطلب والتخزين وصولاً إلى أفضل استخدام للموارد.

تجمع تعاريف إدارة الشراء العمومي على أنها النشاط المخطط القائم على تحديد مواصفات فنّية للحصول على الحاجات من مصادر التوريد المناسِبة في التوقيت الملائم بالجودة وبالسعر المناسب، علماً أنّ إدارة الشراء العام تدخل ضمن إدارة المالية العمومية فلا بد لها من أن تتلاءم مع المبادئ التي تحكمها لا سيما تلك المتعلقة بإعداد الموازنة العامة.

إنّ مستويات الجودة والتكلفة مرتبطة بعملية تخطيط ترتكز على الموارد المالية المتاحة وتحديد الحاجات وأوقات استلام الطلبيات بدقة ووضوح، وصياغة المواصفات بالتناسب مع الحاجات، واعتماد قواعد الاختصاص والكفاءة والشفافية والتكامل والمحاسبة في إجراءات الشراء العمومي.

تكمن فوائد التخطيط في تخفيض قيمة المال المستخدَم واكتشاف الأساليب الفنيّة الممكن استخدامها في تخفيض التكلفة، وتجميع المعلومات عن الموردين، ومنع التكرار الذي يؤدّي إلى تراكم الأصناف، وتلافي التقادم الفنّي بما يسمح بتحديد الحجم الاقتصادي الأمثل للطلبية والفترة المناسبة للتوريد.

ينسجم التخطيط مع مبادئ المنافسة والعلنية، ويمهّد الطريق لاختيار طرق الشراء الأفضل، وغيابه يحول الشراء العمومي من نظام متكامل إلى شراء عند الحاجة يستلزم تقصير مهل الإعلان، ما يؤدي الى ضرب المنافسة وارتفاع الأسعار وينعكس سلباً على جودة السلع والخدمات والأعمال المعَدّة للاستفادة والانتفاع منها من قبل المواطن المموِّل الأساسي للإنفاق، فالتطور الحاصل بالبنى التحتية والخدماتية مرتبط بشكل وثيق بكيفية اجراء الصفقات العمومية.

إنّ اجراء الصفقات من دون برنامج سنوي مسبق يحمل على الاعتقاد بأنّ الاولوية هي للإنفاق، وليس لتلبية الاحتياجات، لذلك لا بدّ من العودة الى نظام المناقصات المحال اليه بموجب قانون المحاسبة العمومية واعتماد المخطط او البرنامج السنوي للصفقات العمومية.

نستعيد هنا القرار الرقم 48 تاريخ 26 -03-2009 الذي كلّف إدارة المناقصات إجراء الصفقات لمختلف الإدارات العامة من خارج البرنامج السنوي الى حين صدور الموازنة ونشر البرنامج.

رغم بناء هذا القرار على قانون المحاسبة العمومية وتعديلاته، إلّا أنه يخرج عن احكام الفقرة الأخيرة من المادة الخامسة نظام المناقصات، والتي تجيز لمجلس الوزراء مخالفة القواعد المتعلقة بالبرنامج السنوي في حالات محددة، ولا تجيز له بمطلق الأحوال تعديل هذه القواعد أو وضع قواعد جديدة.

بني هذا القرار ايضاً على المرسوم الرقم 9817 تاريخ 04-05-1968 باعتباره نظام المناقصات واطلاع المجلس عليه، والواقع أنه يتعلق بأصول تفتيش البعثات اللبنانية في الخارج ما يجعل القرار مجرداً من أيّ أساس.

يلغي القرار الرقم 48 البرنامج السنوي للصفقات العمومية مستنداً الى عدم صدور قانون الموازنة العامة، وهذا امر غير منطقي لأنّ الموازنة تعدّ على أساس الخطة السنوية للإنفاق، وليس العكس، وما الإشارة في نظام المناقصات الى أنّ البرنامج السنوي ينشر للمرة الثانية بصيغته النهائية بعد نشر الموازنة، سوى دليل قاطع على أسبقيّة البرنامج السنوي للموازنة التي تعدّ على أساسه، ويعاد تعديله بعد نشرها في ضوء الامكانيات المالية التي يتمّ الحصول عليها على شكل اعتمادات ترصد في الموازنة العامة.

إنّ أولى خطوات الحدّ من الفساد، تطبيقاً لموجبات اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحته، التي انضمّ اليها لبنان في العام 2009 تستلزم اعتماد الشفافية والمنافسة من خلال الإعلان الاولي عن الصفقات العمومية ضمن البرنامج السنوي، وهذا الامر مكرَّس في قانون المحاسبة العمومية والتشريعات المتعلقة بالصفقات العمومية في معظم الدول وتشريعات الاتحاد الأوروبي وإرشادات البنك الدولي. كما أنّ البرنامج السنوي للصفقات العمومية يُعتبر الخطوة العملية الأولى نحو إعداد موازنة شفافة تعكس حقيقة الإنفاق العام.

لأنّ القواعد القانونية وُضعت لكي تطبَّق ويُعمل بها، لا بدّ من الرجوع الى قانون المحاسبة العمومية بعد أن غيّبه على مدى سنوات القرار رقم 48، الصادر خلافاً لأحكام الراي الاستشاري لديوان المحاسبة تحت الرقم 7/2009 تاريخ 15/01/2009 الذي اكد انّ الطريقة القانونية الوحيدة الجائزة، في ظلّ عدم صدور قانون الموازنة العامة، لإجراء الصفقات العمومية من خارج البرنامج السنوي صدور قرار عن مجلس الوزراء عند اللزوم وفي كل مرة.

يتبيّن من القواعد التي نصت عليها المواد 4، 5، و6 من نظام المناقصات، أنها أوكلت الى إدارة المناقصات توحيد البرامج السنوية التي تردها من مختلف الإدارات العامة، على أن يبقى الإعداد والإيداع ضمن المهل القانونية من موجبات هذه الإدارات، ويُبنى على طابع السرعة والحاجة والتدابير المسبقة الواجب اتّخاذُها من دراسات واستملاكات وسواها، وأنّ البرنامج السنوي يتضمّن المواعيد الشهرية المرتقبة لإجراء كل صفقة، بدليل أنّ نظام المناقصات يخضع تقريب إجراء صفقة لموافقة مجلس الوزراء وتأخيرها لموافقة التفتيش المركزي.

أهم القواعد هي الشفافية والعلنية والمنافسة بفرض نشر الإعلان في الجريدة الرسمية وفي صحف محلية عن الصفقات، مرة أولى ضمن المخطط السنوي لكامل الصفقات المرتقبة خلال السنة، ومرة ثانية لكل صفقة قبل إجرائها، على ان لا يغني الإعلان عن البرنامج السنوي عن الإعلان الخاص بكل صفقة، ما يسمح بوصول العلم بإجراء الصفقات العمومية الى كل العارضين المعنيين بها في وقت كاف لتحضير عروضهم.

الواضح أنّ السلطة المعطاة لمجلس الوزراء للخروج على القواعد المتعلقة بإعداد البرنامج السنوي تتعلق بصفقة محددة بذاتها، لأنّ إجازة مجلس الوزراء هي استثناء على قاعدة قانونية لا يمكن أن تصل حدّ تعديلها أو إلغائها.

إنّ القرار رقم 48، بتكليفه إدارة المناقصات إجراء الصفقات من خارج البرنامج السنوي، لا يأتلف مع قانون المحاسبة العمومية، ومبادئ الإدارة القائمة على التخطيط وإعداد الموازنة العامة بناءً على الدراسة التقديرية للنفقات والإيرادات، بالإضافة الى مساهمته في تسهيل وتسريع إجراء صفقات ارهقت الخزينة، لم تثبت جدواها العملية ولم تخضع لموجبات العلنية والمنافسة الكاملة.

إنّ إسناد صرف النظر عن البرنامج السنوي الى عدم صدور قانون الموازنة العامة لا يستقيم مع الواقع، إذ إنّ البرنامج السنوي للصفقات العمومية يسبق الموازنة التي تُبنى عليه، والواقع أنّ الصفقات لم تتوقف بين العامين 2006 و2016 ضمناً لعدم صدور قانون الموازنة العامة، بل تتابعت وكانت تموَّل من القاعدة الإثني عشرية أو من قوانين تجيز فتحَ اعتمادات، ما يعني أنها كانت ضرورية وممكنة برمجتها ضمن خطط سنوية.

اليوم ومع انتظام عمل السلطة التنفيذية، نأمل اعمال قانون المحاسبة العمومية ونظام المناقصات وقواعد الشفافية والمنافسة، فلا يصدر قرار يكون من شأنه تسهيل تمرير الصفقات، فيما المطلوب ضبطها ووضع قواعد لزيادة فعاليّتها، والسعي الى تحقيق اكبر فائدة منها بأقل تكلفة ضمن معايير التنمية المستدامة، بل يأتي أيُّ قرار استثنائي مرتبط بصفقة ضرورية غير متوقعة محددة بذاتها، وخلاف ذلك تطبق القواعد القانونية فيتمّ إعداد البرنامج السنوي للصفقات والانطلاق منه لإعداد مشروع الموازنة العامة.

لا دولة بدون إدارة، لا إدارة بدون موازنة، ولا موازنة بدون تخطيط وارتقاب ورصدأهداف مقابل الاعتمادات.