كتب أنطوان فرح في صحيفة “الجمهورية”:
ما هي الاستحقاقات المالية والاقتصادية المتوقعة في المرحلة المقبلة؟ وهل يمكن القولُ إنّ القطار قد وُضع على السكة، مع ولادة الحكومة المُنتظرة ونيلها الثقة، وبدء ورشة العمل للخروج من الهوّة الموجود فيها البلد حالياً؟
هناك إجماع داخلي وخارجي على أنّ الإنقاذَ المالي والاقتصادي لا يمكن أن يتحقّق إلّا من بوابة خفض منسوب الفساد والهدر الى مستويات مقبولة، تسمح للإصلاحات والإجراءات التي يمكن اتخاذُها، أن تؤتي ثمارها، في مشروع الخروج من الأزمة، وتحاشي الكارثة المالية الوشيكة.
وقد ظهرت في الأفق إشاراتٌ توحي بأنّ بعض الأفرقاء السياسيين حسموا أمرهم في اتّجاه محاربة الفساد، لعلّ أبرزَهم اندفاعاً على المستوى الإعلامي حتى الآن «حزب الله»، الذي أوكلت قيادته الى النائب حسن فضل الله إدارة هذا الملف.
ويعتبر البعض، أنّ «حزب الله» تحديداً، يستطيع أن يتولّى هذه المهمة «المقدّسة» والتي تحظى من حيث المبدأ بتعاطف ودعم كل اللبنانيين الذين يعانون من الفساد والمفسدين، لأسباب عدة من أهمها:
أولاً- أنّ الحزب كان طوال سنوات بعيداً من عمليات المحاصصة التي كانت تتمّ في التعيينات وتقاسُم مغانم المناصب والمواقع الإدارية الدسمة في الدولة. بل إنه كان بعيداً أيضاً من الحقائب الوزراية المُصنّفة دسمة، في اشارة مُبطّنة الى موازنات تلك الوزارات التي تسمح بالسرقة أو استغلال السلطة للسماح للمحاسيب بالسرقة وشراء الولاء.
باستثناء هذه المرة التي اختار فيها الحزب تولّي حقيبة الصحة، وهي حقيبة دسمة تحتاج الى وزير إصلاحي آدمي يتولّاها. وهناك مَن يقول إنّ الهدف من إصرار الحزب عليها هو إعطاء نموذج إصلاحي لكيفية إدارة وزارات خدماتية من هذا النوع.
ثانياً- إنّ «حزب الله» بما يملك من «هيبة» يستمدّها من عناصر قوة عدة في مقدمها امتلاك السلاح، وتقديم نفسه مقاوِماً ومدافِعاً عن البلد، في البداية ضدّ إسرائيل، ولاحقاً في وجه الإرهاب، ومستقبلاً قد يظهر عدوٌّ جديد يُضاف الى اللائحة، هذا الحزب يستطيع أن يتعاطى مع ملف الفساد بجدّية وصرامة لا يمتلكها أيُّ فريق سياسي آخر في البلد.
ثالثاً- إنّ النواب والوزراء والمسؤولين الرسميين في «حزب الله» الذين يتولّون وظائف عامة، سواءٌ في الإدارة العامة، أو في البلديات أثبتوا نظافة كفٍّ في التعامل مع المال العام، وبالتالي، اكتسب هؤلاء صفة الأوادم في التصنيف الشعبي للأفرقاء السياسيين الذين يتقاسمون السلطة في البلد. وهذه السمعة ضرورية لأنّ الناس لا يستطيعون أن يثقوا بفاسد يحاضرُ في العفّة، ويعدُهم بمحاربة الفساد.
لكنّ هذه المعطيات الإيجابية التي توحي بأنّ «حزب الله» مؤهّل لقيادة مشروع محاربة الفساد وإخراج لبنان من أزمته الاقتصادية والمالية، تحتاج الى إعادة تدقيق وتمحيص وضبط، لئلّا تتحوّل من عملية إصلاحية إنقاذية، الى مشروع تدميري آخر، تأتي نتائجُه عكس ما هو متوقّع منها. إذ توجد في مقابل المعطيات الإيجابية، مجموعة حقائق ومعطيات سلبية تجعل من اندفاعة «حزب الله» العلنية لمحاربة الفساد، محفوفة بالمخاطر، من أهمها:
أولاً- إنّ الإشارات الاولى التي أعطاها الحزب في اختيار الملف الذي يريد التركيز عليه في محاربة الفساد، توحي بأنّ إمكانية الإفادة من هذا الملف لتصفية الحسابات السياسية مع خصومه واردة. وإذا كان الحزب جاداً في تحقيق إنجازات موضوعية في هذا الاتّجاه، كان عليه اختيارُ ملفٍّ آخر، تتجه اصابع الاتهام فيه الى حلفائه السياسيين.
وتطول لائحة الملفات التي تفوح منها روائح الفساد، بعضها مَرّ عليه الزمن، وبعضها الآخر لا يزال ساخناً. ويمكن على سبيل المثال لا الحصر، ذكر ملفات الصناديق على انواعها، وما أدراك ما في الصناديق من فضائح وسرقات موصوفة وربما موثّقة.
ثانياً- إنّ الانطباع العام لدى قسم كبير من اللبنانيين هو أنّ «سلاح» الحزب، عن قصد أو غير قصد، يغطّي الكثير من عمليات الفساد والخروج على القانون في الدولة.
ويشمل هذا الامر، أموراً صغيرة وكبيرة، تبدأ بتغطية المخالفات، وتشمل أحياناً التعدّي على الأملاك العامة، التعدّي على أملاك الغير، سرقة المال العام من خلال سرقة الكهرباء وسواها من الخدمات، تعاطي تجارة الممنوعات من خلال التواجد في مناطق «المقاومة» التي لا تستطيع القوى الأمنية دخولها إلّا بإذن مسبَق، مصحوبة بخريطة مفصّلة لتحرّكها وأهدافها.
ثالثاً- إنّ الامتيازات التي يتمتع بها «حزب الله» من خلال حصرية حمل السلاح خارج الشرعية، والتي تسمح بإدخال البضائع الى البلد، من دون الخضوع للتفتيش وللاجراءات القانونية المتّبعة على الحدود البرية، يُجرى استغلالُها، وتحويلها الى عمليات تهريب منظّمة لكل انواع البضائع، الامر الذي يحرم الخزينة من الأموال، ويضرب التجارة الشرعية، ويغذّي ثقافة الفساد في البلد.
رابعاً- إنّ وضعية «حزب الله» في العالم العربي والغربي، لا تؤهّله ليكون موضعَ ثقة الدول التي نسعى من خلال محاربة الفساد الى كسب ثقتها، لأنّ المطلوب في النتيجة تجميل صورة البلد، وإعادته الى خريطة الاستثمارات، بهدف إنقاذه مالياً واقتصادياً. ومن دون ثقة، لا اقتصاد يستطيع أن يصمد وينمو.
هل تعني هذه الحقائق أنّ «حزب الله» يجب ان ينكفئ ويترك لسواه مهمة محاربة الفساد؟
الجواب، إنّ الحزب ينبغي أن يفصل بين اندفاعته الإعلامية والسياسية لمحاربة الفساد، وبين عمله الصامت والحقيقي في هذا الملف. وهناك أمر يعرفه الناس، ولو أنهم لا يملكون الوثائق لإثباته، يتعلّق بسرقة المال العام، ويمكن اختصارُه بالتالي: معظم السرقات الدسمة التي جرت في السابق، إما أنها جرت بعلم وتغطية من «الكبار»، أو جرت بناءً على طلب «الكبار» الذين حصلوا على حصة الأسد فيها. والسؤال هو كيف ستتمّ محاسبة الكبار الذين يقبضون على السلطة السياسية، ويملكون حصريّة المحاسبة؟
لا أحد يصدق مثل هذه الأوهام، وإذا فتحنا ملفات الفساد السابقة، نعرف تماماً الى أين ستقودنا. ستصل الى مستويات من غير المسموح تجاوزها.
وبالتالي، الحقيقة الواضحة المرتبطة بالتركيبة الطائفية والسياسية، هي أنّ القوى نفسها التي قد تطاولها تُهمُ الفساد، لا تزال تُمسك بالسلطة السياسية، وبالتالي، إذا كان هناك من نيّة حقيقية للتغيير، ينبغي التركيز على الحاضر والمستقبل، من خلال اتّخاذ قرار بوقف السرقة، وبدء مرحلة مختلفة، وسيكون ذلك كافياً ومفيداً اكثر بكثير من نبش القبور، وفتح ملفات نعرف تماماً أنها لن تصل الى خواتيمها السعيدة، وستتوقف عند مستوى معيَّن، وتتحوّل الى تصفية حسابات سياسية.
وقد تنحصر عمليات المحاسبة بالتفتيش عن أشخاص فقدوا الغطاء السياسي لمحاسبتهم، فيما لن تقترب ممَّن يحظى بهذه التغطية.
ومثل هذه الممارسات، تنشر الفساد اكثر ممّا تقلّصه. إذا كانت هناك نيّة فعلية لمحاربة الفساد، ينبغي أن يصدر قرار فعلي من «الكبار» بوقف السرقة، وبدء مرحلة جديدة مختلفة عن السابق. وعلى الدولة، وليس «حزب الله» أو أيّ فريق سياسي آخر، أن يتولّى تطبيق هذا القرار، الذي لا يبدو أنه صدر حتى الآن.