كتب بروفسور جاسم عجاقة في صحيفة “الجمهورية”:
أكثر من 6 مليارات دولار أميركي عجز الموازنة في العام 2018. هذا الرقم مُرشّح بقوّة إلى الإرتفاع إلى أكثر من 7 مليارات د.أ في العام 2019 نتيجة الإستمرار في الإنفاق وضعف النمو. وإذا كان على الحكومة، بعد نيلها الثقة، أن تُنفّذ بنود البيان الوزاري، إلا أنّ التداعيات المالية الإيجابية لهذه البنود لن تكون سريعة بغياب الضرائب.
بعد نيل الحكومة ثقة المجلس النيابي، لم يعد أمامها إلا تنفيذ ما ورد في البيان الوزاري من إصلاحات ومشاريع، وهنا تظهر مشكلة رئيسية وهي عجز الموازنة، الذي تخطّى العام 2018، بحسب تقديراتنا 6 مليارات دولار أميركي وبالتالي ونتيجة الـ momentum في الإنفاق العام، ضعف النمو، والتأخّر في إقرار موازنة العام 2019، من المتُوقّع أن يرتفع العجز في العام 2019 إلى أكثر من 7 مليارات دولار أميركي كما تُشير النماذج الحسابية.
توقّعات غير مُشجّعة في 2019
توقّعاتنا للنمو الإقتصادي في العام 2019 ستكون بحدود 1.65%، أي أنّ الناتج المحلّي الإجمالي الإسمي سيكون بحدود الـ 62 مليار د. أ. هذا النموّ سيأتي كنتيجة لتشكيل الحكومة فقط، نظراً إلى أنّ الإستثمارات التي ستقوم بها الحكومة اللبنانية بحاجة إلى أكثر من عام لدفع المفعول الإيجابي المنشود على المالية العامّة.
إذاً، وبفرضية أن لا عقبات سياسية تمنع تنفيذ البيان الوزاري، وأن لا ضرائب في موازنة العام 2019، يحتاج الإقتصاد إلى أكثر من سنة كي يبدأ تسجيل نسب نمو تتراوح بين الـ 2 إلى 5% بحسب حجم الإستثمارات. وبالتالي، سيستمرّ العجز في الموازنة بالإرتفاع تحت تأثير ثلاثة عوامل:
1- حجم العجز في موازنة العام 2018.
2- إرتفاع خدمة الدين العام بسبب إرتفاع الفوائد (عالميًا وداخليًا).
3- إستمرار الإنفاق خصوصاً في ملف الكهرباء وكتلة الإجور.
خيارات الحكومة
مما تقدّم، يظهر لنا أنّ أمام الحكومة ثلاثة خيارات:
الأول، عدم القيام بأي خطوة إلا الإصلاحات والإستثمارات المنصوص عنها في البيان الوزاري (من دون ضرائب)، وهذا الأمر سيؤدّي إلى رفع العجز إلى مستويات تفوق الـ12% من الناتج المحلّي الإجمالي، مما يُصعّب عملية الإلتزام بشروط «سيدر». هذا الخيار محفوف بالمخاطر الفعلية نتيجة وجود وكالات التصنيف التي لا تنفك تُصدر تقارير يومية عن لبنان، كأن لبنان أصبح شغلها الشاغل.
الثاني، رفع الضرائب، ممّا لهذه العملية من مفعول فوري على الخزينة. لكن التجربة الأخيرة لرفع للضرائب في العام 2017، أظهرت أنّ التهرّب الضريبي يزيد مع رفع الضرائب، وبالتالي ستتوجّه الحكومة أكثر إلى الضرائب المباشرة على الإستهلاك (الضريبة على القيمة المضافة، ضريبة على البنزين، الرسوم…).
والجدير ذكره أن هناك بنداً في البيان الوزاري يتحدّث عن «توسيع قاعدة المُكلّفين»، وهذا يعني في الدرجة الأولى زيادة الضرائب. إلا أنّ مثل هذه الخطوّة قد لا يتقبّلها المجتمع اللبناني ولو من باب التضحّية لإنقاذ الوطن.
الثالث، القيام بعمليّات إصلاحية محدودة تسمح بجمع أموال تكفي لتغطية الزيادة في العجز وبالتالي الحفاظ على مستوى عجز موازٍ للعجز في العام 2018. وهذا هو التحدّي الذي يواجه الحكومة اليوم.
ومن بين الإجراءات التي يُمكن للحكومة القيام بها، إعادة فرض رسوم جمركية على البضائع المستوردة، ضبط الإستيراد لمنع التهرّب الجمركي، التشدّد في الجباية أقلّه 10 إلى 20%، خفض الإنفاق الجاري (السفر، تعويضات اللجان، التجهيزات…).
بالطبع، قد تعمد الحكومة إلى مزج الخيار الثاني والثالث بهدف تعظيم لجمها للعجز المتوقّع. إلا أنّ أي خيار تقوم به الحكومة من بين هذه الخيارات سيفرض حكماً محاكاة ماكرو إقتصادية (وليس حسابية) لمعرفة التداعيات الفعلية على المالية العامّة وعلى الإقتصاد، كما ودرس المخاطر التي قد تتأتى من تردّي تصنيف لبنان الإئتماني.
ماذا عن مصرف لبنان؟
سُئل أحدهم يوماً عن عمره، فأجاب عمري 40 عاماً.. مضت عشرة أعوام وسُئل مرة ثانية عن عمره فقال 40 عاماً. وهنا قيل له: كان عمرك 40 عاماً منذ 10 سنوات فكيف يكون عمرك 40 عاماً اليوم؟ فأجاب أنا رجل لا أغيّر كلامي! وهذا شأن الذين يشنوّن هجوماً متواصلاً على مصرف لبنان.
فعلى رغم من أنّ مصرف لبنان استطاع الحفاظ على الليرة وعلى مالية الدوّلة، عبر تمويلها خلال كل الحقبة الماضية وما واكبها من ظروف سياسية وأمنية وإجتماعية جمّة، لا يزال هؤلاء على كلامهم ويُشكّكون بقدرة مصرف لبنان على الإستمرار في سياسة الثبات النقدي والمُحافظة على سعر صرف ليرة ثابت.
مصرف لبنان يتمتّع بالقدرة على مواكبة الحكومة في عمليتها الإصلاحية، وهو مُستعدّ للتمويل ويملك الوسائل لذلك، وهذا باعتراف كل التقارير التي صدرت من البنك الدولي، غولدمان ساكس، وغيره. هذا الأمر محسوم لكنه في الوقت نفسه مشروط بوضع حدّ لعجز الموازنة، الذي هو الشرط الأساسي لمؤتمر «سيدر».
إذاً، مصرف لبنان الذي يحمل على عاتقه السياسة النقدية، لا يُمكن أن يحلّ مكان الحكومة التي من مهامها وضع السياسة المالية، وبالتالي هناك مسؤولية على الحكومة تجاه شعبها وتجاه المجتمع الدوّلي وتجاه مصداقيتها بتطبيق البيان الوزاري.
من هذا المُنطلق، نرى أن هناك إحتمالات مُرتفعة أن يدخل لبنان مرحلة من النهوض الإقتصادي، والتي قد تظهر بوادرها إبتداءً من العام المُقبل وتبدأ من القطاع العقاري.
هل ستنجح الحكومة في عمليتها الإصلاحية؟
الحكومة (ومن خلفها المجلس النيابي) تملك القرار الإقتصادي. لذا فإنّ الخلاف السياسي يُعتبر الخطر الأول والأكبر على عمل الحكومة بغض النظر عمّا ستقوم به من إجراءات إقتصادية.
والجدير ذكره، أنّ أي إجراء مهما كان نوعه تقوم به الحكومة في المُستقبل القريب والمُتوسّط، ستكون له تداعيات إيجابية وفورية على الإقتصاد اللبناني وعلى المالية العامّة.
إلّا أنّ الحكومة ستمّر بثلاثة إمتحانات أساسية تُظهر مدى صلابة حكومة الوفاق الوطني أو هشاشة هذا الوفاق. هذه الإمتحانات هي: ملف الكهرباء (الإمتحان الأكبر)، ملف النفايات، وملف التوظيف في القطاع العام. لذا سنرى في المُستقبل القريب إشارات من الحكومة حول هذا الأمر في أولى جلساتها، وسيكون حكم الأسواق على عمل الحكومة عند رفعها لمشروع موازنة العام 2019.