كتب نقولا ناصيف في “الاخبار”:
أكثر من تساؤل أثارته، منذ الانتخابات النيابية وباتت أكثر جلاء في الأيام الأخيرة، إشارات جديدة أطلقها حزب الله في الداخل اللبناني، من دون إظهار أي صلة لها بدوره الإقليمي. أكثر من أي وقت مضى يلتفت إلى ملفات الداخل، كأنه يجرّب «اللبننة»
ينكر خصوم حزب الله عليه «اللبننة». بينهم مَن فسّر موقفه الأخير في مجلس النواب (15 شباط)، بإزاء السجال المتوتر على الرئيس بشير الجميّل، أنه يتعمّد إرساء معادلة جديدة، يخاطب بها منتقديه وخصومه في الفريق المسيحي، مفادها الآتي: تسكتون عن سلاحنا الإيراني، نسكت عن سلاحكم الإسرائيلي.
قد لا يكون حزب الله أراد، فعلاً، معادلة كهذه، من دون أن ينكر بدوره على نفسه التصاقه بإيران سياسياً وعقائدياً ودينياً. في جانب من التبريرات التي قدّمها بعد «هفوة» النائب نواف الموسوي (الأربعاء 13 شباط)، حرصه على الاستقرار وعدم الانتقال بالاشتباك إلى الشارع، وبين الطوائف، جراء ردود الفعل السلبية التي تسبب فيها ما عُدّ انفعال الموسوي. اضطلع الحزب بدور مماثل في كانون الثاني 2018، بتدخل مباشر، لفض الاشتباك بين التيار الوطني الحرّ وحركة أمل بعدما تسبّبت «هفوة» للوزير جبران باسيل بنزول شيعي إلى الشارع، شأن النزول المسيحي إلى الشارع مساء الأربعاء.
كأي من الأحزاب اللبنانية الأخرى، يريد حزب الله الظهور بمظهر أنه في قلب «اللبننة»، كما لو أن ليس له هذا الحجم الإقليمي الكبير، والدور المؤثر في أكثر من دولة بدءاً من سوريا انتهاء باليمن. عند هذا الدور تتقاطع حربه مع إسرائيل وتهديده إياها بالدخول إلى فلسطين حتى، وحربه على الإرهاب والتكفيريين في لبنان وخارجه، وصولاً إلى أن ناط بنفسه الدفاع عن نظام الرئيس بشار الأسد والذهاب إلى أبعد من ذلك في الخليج العربي حتى. في الآونة الأخيرة أضحى معظم خطابه يدور في الملفات المحلية وأخصّها الأزمات الاقتصادية والمعيشية، بكلامه عن الفساد والكهرباء والدواء وإهدار المليارات، وحملته على الصفقات والتوظيف العشوائي في الإدارات الرسمية ومصاعب المستشفيات والعجز المالي والفضائح المستشرية، راغباً في حملها إلى القضاء.
لا تقلل من حاجته إلى هذا الدور الجديد النتائج المفاجئة التي تلقفها في الانتخابات النيابية الأخيرة، وخصوصاً في الدائرة الأم لديه في بعلبك – الهرمل، والأرقام الصادمة. حاز أول الفائزين من كتلة الحزب إيهاب حمادة 18 ألف صوت، بينما حاز أول الفائزين في اللائحة من خارج الحزب اللواء جميل السيّد ضعف الأصوات تقريباً وهو 33 ألفاً. أما وزير الحزب حينذاك حسين الحاج حسن ورأس مرشحي الحزب، فحلّ سادساً بنصف أصوات السيّد. كانت تلك أولى الإشارات السلبية كي يلتفت أكثر إلى الداخل.
ليس آخر الوجوه غير المألوفة عن حزب الله، موقف النائب محمد رعد في مجلس النواب بالذات، والطريقة التي عبّر من خلالها عن تنصّله من ذلك الانفعال، من غير أن يتوهم أحد أن الحزب غيّر في نظرته إلى الرئيس الراحل. من قبل تأكيد أمينه العام السيد حسن نصرالله أن وزير الصحة ليس حزبياً بل قريباً منه. قبل هذا وذاك، إصراره على الرئيس سعد الحريري لرئاسة الحكومة، وتمسكه القاطع باتفاق الطائف، والظهور بمظهر المحايد، غير المعرقل، في المخاض الطويل لتأليف الحكومة. ناهيك بنفيه عنها صفة «حكومة حزب الله» وقوله إنها حكومة ائتلاف وطني.
يطرح خصوم حزب الله أكثر من علامة استفهام عن مآل تحوّل متدرّج، بدأ عام 1992 بكتلة نيابية فحسب، وانتهى – بصبر طويل على الطريقة الإيرانية – بعد أقل من ثلاثة عقود إلى أن يصبح ذا دور مقرّر في كل الاستحقاقات الدستورية: بعد رئاسة الجمهورية (2016) والقانون النسبي للانتخاب (2018)، جاء دوره – من دون صلاحيات – كي يساهم في تأليف ثالثة حكومات الحريري (2019)، إلى حد اتهامه أنه الشريك الثالث غير الدستوري لرئيس الجمهورية والرئيس المكلف. من مرحلة عُدّ فيها سلاحه مصدر اضطراب كانت أحداث 7 أيار 2008 أفضل دليل، إلى مرحلة حالية عنوانها الاستقرار. يكاد حزب الله أكثر من أي وقت مضى بلا خصوم داخل السلطات، بمَن فيهم أعتاهم كحزب القوات اللبنانية الذي أضحى بدوره شريكاً له داخل السلطة، يضاهيه في الكلام عن مكافحة الفساد، ويصفه خصوصاً بـ«الخصم الشريف»، ويقترب من مهادنته.
لم يعد الحريري يُسمع يتحدث عن السلاح، بل يفضّل كف «شرّ» الحزب عن دول الخليج العربي، ويقول إنه يتنازل في سبيل الاستقرار. ثم يقول إن سلاح حزب الله إقليمي، أكبر من مقدرة لبنان على بته.
إلى أن انتهى به القول الخميس الفائت، في ذكرى 14 شباط، أنه لن يسمح لقرار المحكمة الدولية بالتسبب في فتنة لبنانية. إشارة إضافية مهمة، مقدار ما تُحسَب خطيرة إذ تمحو سجل اشتباكه مع الحزب منذ عام 2005: الاستقرار قبل العدالة. ليست المرة الأولى يردد الحريري عبارة كهذه، وخصوصاً في ذكرى اغتيال والده. إلا أنها تصبح الآن أكثر مغازي، عندما يقول إن عمل المحكمة – ومن ثم قرارها – يُختم هذه السنة، وعندما يضع الاستقرار في رأس سلم أولويات لا تقتصر على الأمن، بل يرتبط بعلاقة حُسن الجوار التي باتت تجمعه بحزب الله من خلال واسطة العقد رئيس الجمهورية ميشال عون، حليف الطرفين في آن.
وجهتا نظر متناقضتان، يتداولهما خصوم الحزب بإزاء تفسير منحى الانعطاف المستجد والمتحمس إلى الداخل:
أولاهما، حاجته إلى القول إن في وسعه أن يكون جزءاً لا يتجزأ من دولة يمكن أن ينجح نموذجها من خلال وجوده فيها، سواء في توفير عاملي الاستقرارين الأمني والسياسي لها، أو عندما يكون على رأس حقيبة حيوية أساسية أثير الكثير من اللغط المحلي والدولي من حولها، وأُرفقت بكثير من التهويل والتهديد والتخويف بمقاطعتها. ما لبثت الحقيبة هذه أن استقرت عند حزب الله كما أرادها أن تكون له منذ اليوم الأول للتكليف. نموذج الدولة هذه لا يزال سارياً منذ عام 2016 في ظلّ تسوية انتخاب عون رئيساً للجمهورية والحريري رئيساً للحكومة. ثم أتت حكومة 2019 لتكريس الثلاثية الجديدة.
ثانيتهما، حاجته إلى الداخل اللبناني، وإلى مواقع أساسية في السلطات والتأثير فيها، بغية تعويض أضرار لحقت أو يفترض أنها تلحق بدوره، في سوريا بعدما بات القرار في يد روسيا وليس إيران، والعقوبات الأميركية التي تطارده، والدور الصاعد للسعودية في الخليج العربي.