كتب علي الأمين في صحيفة “العرب”:
نالت الحكومة اللبنانية ثقة مجلس النواب، والأهم هذه المرة أن حزب الله منحها الثقة، وهو الذي طالما كان يشارك في الحكومات، بل ويتحكم بقراراتها الإستراتيجية، لكنه كان لا يمنحها الثقة ويكتفي بعدم التصويت، باستثناء حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي قامت في أعقاب ما يشبه عملية انقلاب قاده حزب الله ضد حكومة الرئيس سعد الحريري، التي أسقطها لحظة دخول الحريري البيت الأبيض في العام 2010.
لقد نالت حكومة الحريري الثقة من قبل 111 نائبا من أصل 128 وهو عدد من الأصوات غير مسبوق في تاريخ الحكومات اللبنانية منذ العام 2005 أي منذ خروج الجيش السوري من لبنان، والفارق في هذا الامتياز للحكومة الحالية، أن تيار المستقبل وحزب الله لم يكونا في ضفتين متقابلتين، ففي السابق حين يمنح تيار المستقبل الثقة للحكومة، فإن حزب الله يمتنع عن التصويت رغم مشاركته. وكذلك تيار المستقبل يحجب الثقة حين يمنح حزب الله الثقة للحكومة كما جرى في جلسة نيل الثقة لحكومة الرئيس ميقاتي المشار إليها.
الحكومة الحالية ولدت بعد تسعة أشهر من موعد الانتخابات النيابية، وتأخير تشكيل الحكومة كل هذه المدة، كما بات معروفا كان نتاج حسابات إقليمية ودولية بالدرجة الأولى لم تنفع هذه المرة، باعتبار أن حزب الله لطالما كان يقدّم عملية التشكيل كهدية لمساومة إيرانية مع أطراف دولية أو إقليمية، هذا ما جرى في كل الحكومات السابقة التي كانت تنتهي بتدخل إيراني بناء على طلب أوروبي أو أميركي، وهذا ما رواه رئيس الحكومة السابق تمام سلام في سياق حديثه، وأكد فيه أن قرارا إيرانيا أفرج عن الحكومة التي ترأسها في العام 2014، بعد نحو عام من تعطيل ولادتها.
إلى جانب الاعتبارات الخارجية، ثمة أسباب داخلية شكلت غطاء لعملية التعطيل، باعتبار أن موازين القوى الداخلية والتي جرى ترجمتها في الحكومة اليوم، أثبتت بوضوح سيطرة حزب الله على الحكومة، فالخلافات الداخلية على الحصص برزت وتفاعلت بسبب عدم حسم الحزب لقرار تشكيلها، وحينما قرر الإفراج عنها تشكلت الحكومة بما يضمن له التحكم بقرارها، خاصة في ما يتصل بالشؤون التي تضمن حرية انتقاله عبر الحدود، والمحافظة على قوته الأمنية والعسكرية داخل لبنان، وإشرافه على القرارات الأمنية والعسكرية الرسمية.
بهذا المعنى فإن حزب الله منح الثقة لحكومة يتحكم بقراراتها ويدير توازناتها، وفي الوقت نفسه يدرك أن أعضاءها باتوا عاجزين عن توفير الغطاء له، ولذلك يمارس اليوم السياسة في الداخل اللبناني، بمنطق أن اللبنانيين شكّلوا مؤسساتهم الدستورية وأن حزب الله شريك مثل بقية القوى اللبنانية في المؤسسات الدستورية، ولذا يبدو حريصا على هذا الخطاب الإعلامي والسياسي، إذ يمكن ملاحظة موجة من الكلام الهادئ تجاه الداخل، بالتركيز على أنه شريك بين شركاء متساوين، ولكنه خطاب يتسم بالخداع، ذلك أنه طالما لا يقترب الذين يُفترض أنهم شركاؤه في الوطن من دوره الأمني والعسكري ومن استخدام سطوة سلاحه في الداخل، فهو لن يتعرّض لهم ولن يمارس فعل التهديد والوعيد.
من هنا يمكن فهم كيف قدّم حزب الله اعتذاره على ما قاله نائبه في البرلمان نواف الموسوي بشأن التهوين من وطنية الرئيس السابق بشير الجميل، وفي قوله إن الرئيس الحالي ميشال عون وصل إلى سدّة الرئاسة ببندقية حزب الله. فما قاله الموسوي ليس جديدا وهو يتردد كثيرا في أوساط حزب الله وغيره، لكن اعتذار حزب الله هو الجديد، ذلك أن الموسوي خرج عن سياق اللهجة التي يريد حزب الله اعتمادها، وليس على المنطق الذي يمارسه حزب الله في سلوكه السياسي، فطالما أن اللعبة السياسية اللبنانية أمكن تطويعها وأمكن السيطرة على مفاصل السلطة الرسمية ومؤسساتها، فما هي الحاجة لاستفزاز الذين قبلوا بمعادلة حزب الله وشروطه هذه؟
الطبع يغلب التطبع هذا إذا كان هناك رغبة بالتطبع بآليات عمل النظام اللبناني وبشروط الدولة، فحزب الله كما يعتقد كثيرون، لا يؤمن بشروط الدولة ولا بسيادتها، ولا بقواعد الحكم التي تقوم على قاعدة المواطنة والسيادة، وهذا ناشئ عن بنية أيديولوجية لا تعترف بولاء يتقدم على ولاء الولي الفقيه الحاكم للدولة الإسلامية في إيران، وبالتالي فهو يمارس السياسة في سياق خدمة مشروع إيران أو ما يسميه “محور المقاومة” الذي تقوده إيران.
وهذه السياسة الإيرانية التي تتعرّض لمواجهة دولية تقودها واشنطن، تبدو شديدة الحذر في لبنان، والتخوّف من قيام حرب إسرائيلية تستهدف مراكز نفوذ إيران في سوريا ولبنان أمر أشار إليه وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، في مؤتمر ميونيخ قبل يومين، حين حذّر من أن التدخلات الإسرائيلية والأميركية في سوريا قد تفجّر حربا كبيرة، وهذا التخوّف المرتبط بتحذير إيراني أيضا، يفسر إلى حد كبير سعي حزب الله في لبنان إلى التهدئة، ولكن ليس على قاعدة الانضواء في مشروع الدولة، بل في محاولة للتحصن بالمؤسسات الدستورية اللبنانية، وعدم إثارة أي توترات مع أي طرف داخلي لبناني، خصوصا أن حزب الله يدرك المدى الذي وصل إليه الوضع المالي والاقتصادي للدولة اللبنانية، تبعا للظروف الاجتماعية التي يعيشها اللبنانيون بسبب إضعاف الدولة ومؤسساتها، وصل إلى حافة الانفجار ويشكّل وقودا لأي مواجهة داخلية يمكن أن تنفجر ولو من باب سياسي، فمحاصرة أي انفجار داخلي هي أولوية حزب الله، لأنه يدرك أن الانفجار الاجتماعي سيكون في وجهه باعتباره صاحب السهم الأكبر والحاسم في السلطة. فالإفلاس الذي تقف على حافته خزينة الدولة يعرفه الجميع، وهو ما يجعل حزب الله مهتما بأمرين. أولهما بذل جهد كبير في إلقاء تبعة الفساد والعجز على غيره من القوى السياسية، ومحاولة تبرئة نفسه من خلال مخاطبة اللبنانيين بالقول إنه حاول أن يقدّم عروضا إيرانية تساعد لبنان ولكن تمّ صدّه، وهو كلام دعائي الهدف منه التنصّل من مسؤولياته حيال ما وصلت إليه الدولة. والأمر الثاني هو توجيه رسائل إلى المجتمع الدولي بأنه سيعمل على تسهيل تطبيق مقررات مؤتمر سيدر، الذي يتناول دعم الاقتصاد اللبناني بمشاريع بنى تحتية وإصلاحية في الدولة اللبنانية.
هاتان الخطوتان تساهمان من جهة في تظهير ميل حزب الله إلى أن يكون مساعدا في عملية منع الانهيار المالي والاقتصادي، ومن جهة ثانية هي خطوة تتناغم مع حال الضعف والحصار الذي يعاني منه حزب الله إقليميا ودوليا، فهو يدرك، كما تدرك إيران، أن أيّ حرب تستهدفهما في سوريا أو في لبنان ستكون نتائجها كارثية على دورهما وعلى لبنان بطبيعة الحال، وبالتالي فإنّ سلوك التهدئة والحديث عن المشاركة واللغة الاعتذارية، ما هي إلا مقدمة إما لحرب لا يريدها حزب الله اليوم، وإما تمهيد لابتلاع ما بقي من لبنان فيما لو نجت إيران بتسوية يكون لبنان فيها من حصتها المهدورة في سوريا.