كتب جورج شاهين في صحيفة “الجمهورية”:
ما زال موضوع الإنسحاب الأميركي بنداً أوّلاً على جداول أعمال القمم والمؤتمرات الخاصة بسوريا وسط حيرة أوروبية وقلق تركي وايراني وتشكيك روسي من جدية الخطوة وموعدها. وما عزّز هذا الشعور هو ما أوحت به واشنطن من أنّ الإنسحاب الأميركي مؤجّل وسيكون مدروساً بالتنسيق مع الحلفاء. وما زاد في الطين بلة نظرية جديدة تقول:”نحشد الآن في سوريا لتسهيل الإنسحاب لاحقاً”. لكن متى وكيف؟
اجمعت التقارير الديبلوماسية حول مجريات مؤتمر “ميونيخ للأمن” بعد “قمة سوتشي” و”مؤتمر وارسو” على قراءة شبه موحّدة توحي بتأجيل الإنسحاب الأميركي من سوريا الى أجل غير محدَّد، طالما أنّ أيَّ خطوة لم ولن تقدم عليها واشنطن قبل التشاور مع حلفائها وقبل ترتيب البيت الأميركي، واعادة توفير التأييد المفقود لهذه الخطوة في أكثر من موقع في وزارتي الخارجية والدفاع الى مجلس الأمن القومي والمخابرات والتي نمت بعد استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس إعتراضاً على هذا القرار.
وفي التقارير الديبلوماسية كلام اميركي اكثر دقة يشرح التداخل بين الملف السوري والمواجهة المفتوحة بين الرئيس دونالد ترامب ومجلس النواب في الكونغرس الأميركي ليس في شأن الإنسحاب من سوريا فحسب، بل على خلفية رفض المجلس إعلانه حال الطوارئ القصوى لتوفير 8 مليارات دولار وفي اسرع وقت ممكن للبدء ببناء الجدار الإسمنتي الفاصل مع المكسيك، بدلاً من 5 مليارات كان يريدها قبل اربعة أشهر.
كل ذلك من اجل وقف الهجرة غير الشرعية عبرها من مختلف دول اميركا اللاتينية قبل ان يتفرّغ لمعركة الأنفاق التي انتشرت في المنطقة بكثافة خلال الأعوام القليلة الماضية.
وعلى هذه الخلفيات تفنّد التقارير الديبلوماسية توجهات الإدارة الأميركية من ملف الانسحاب من سوريا في المرحلة الراهنة والظروف التي تتحكّم بالمراحل المؤجّلة على اكثر من مستوى.
ولعلّ ابرزها ما ظهر في المناقشات التي شهدها مؤتمر “ميونيخ للأمن” عقب الإعلان الفرنسي عن حجم الحيرة التي وضعت واشنطن بلاده وحلفاءها فيها، مضافة الى التشكيك الروسي بجدّيتها والقلق الإيراني – التركي من نتائجها على خلفية نزاعهما حول حصة النظام السوري منها.
ولكي تكون الرؤية أكثرَ وضوحاً، تقول التقارير الدبلوماسية، يجدر التوقف عند بعض المؤشرات التي تدفع الى تأجيل الإنسحاب ومنها على سبيل المثال:
– الرضوخ الأميركي الموقت لرفض معظم دول التحالف الدولي ضد داعش لقرار الانسحاب الأميركي في وقت قريب بعد التسريبات التي قالت إنّ نيسان موعده نقلاً عن ترامب، والتي رفضها الفرنسيون والبريطانيون علناً. فهم والى جانب قوات اخرى هدّدوا بالانسحاب الفوري من الساحة السورية ووقف عملياتهم العسكرية في المنطقة بعد الانسحاب الأميركي.
– مواجهة ردود الفعل الرافضة التي عبّرت عنها الفصائل الكردية والقوى العربية المتحالفة معها في شمال سوريا وهدّدت اولاً بوقف الحرب التي تقودها ضد “داعش” المنتشرة قرب مجرى نهر الفرات ومناطق الرقة وريف إدلب وصولاً الى الحدود العراقية.
كذلك هدّدت بتجديد الاتصال مع النظام السوري طلباً لإعادة تمركز قواته على حدود هذه المناطق والاحتفاظ بالإدارة الذاتية لها، وخصوصاً تلك التي ستخليها القوات الأميركية بدلاً من الخطط الموضوعة لنشر قوات تركية في المنطقة الآمنة.
وهو ما أيّدته روسيا وفتحت أبواب قاعات “قاعدة حميميم” العسكرية لإستضافة وفود الطرفين سعياً الى إصابة هدفين: وقف الطموحات التركية من جهة، وتعزيز قوات النظام من جهة أخرى.
– الخوف الجدّي من نجاح العروض والمحاولات الإيرانية التي تخوضها طهران من ضمن مسعاها للمصالحة بين أنقرة ودمشق لتسوية الوضع في شمال سوريا وعلى طول الحدود العراقية ـ السورية على رغم من حجم العوائق المعلن عنها، لتأمين بوابات عبور آمنة لها من طهران الى بيروت عبر بغداد ودمشق.
وبناءً على ما سبق من ملاحظات، تتحدث الإستراتيجية الأميركية الجديدة عن مجموعة خطوات بدأت بتنفيذها ويمكن الإشارة الى ما يلي منها:
– تأكيدات المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا جيمس جيفري الذي قال على هامش مشاركته في مؤتمر ميونيخ أمس الأول إنّ بلاده “لن تقوم بانسحاب سريع من سوريا”، وإنها “حريصة على التشاور عن كثب مع الحلفاء في شأن هذا الانسحاب”. وتوجّه الى شركائه: “نقول للحلفاء في استمرار إنّ هذا لن يكون انسحاباً سريعاً وإنما خطوة بخطوة”.
– التهديد الذي أطلقه قائد قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة اللفتنانت جنرال بول لاكاميرا الى حلفاء واشنطن من الاكراد والعرب في الشمال بـ “قطع العلاقات معهم ووقف مساعداتها العسكرية” في حال تحالف مقاتلوها مع الرئيس السوري بشار الأسد أو روسيا؟ وأضاف: “سنستمر في تدريبهم وتسليحهم إذا بقوا شركاء لنا”.
وامام هذه الوقائع، وبالإستناد الى ما تنتجه وما هو متوافر من معلومات عن تعزيز القواعد الأميركية بمزيد من الرجال والأعتدة، فإنّ عنوان المرحلة المقبلة تلخّصه معادلة جديدة تقول: “إننا نحشد اليوم لننحسب في وقت لاحق”، من دون الإشارة الى أيّ مواعيد وآليات يمكن اللجوء.