Site icon IMLebanon

1.4 مليار دولار لـ”توطين” النازحين: الدولة آخر من يعلم!

كتبت ليا القزي في “الاخبار”:

في عام 2018، دفعت 10 دول مانحة مبلغ مليار و477 مليوناً و939 ألف دولار في لبنان، «استجابةً لأزمة النزوح السوري». لكنْ لم يدخل الخزينة اللبنانية، في العام نفسه، سوى 21 مليون دولار كتبرعات وهبات «لدعم جهود الاستجابة لتداعيات النزوح السوري إلى لبنان». تؤكّد الأرقام أنّ «المجتمع الدولي» يتجاوز سلطة الدولة اللبنانية، فارضاً عليها رؤيته في ما خصّ النزوح السوري، من دون أن تخفي دوله الكبرى قرارها بإبقاء النازحين حيث هم!

يُعدّ لبنان من أكثر الدول استضافةً للنازحين في العالم، نسبةً إلى مساحته وعدد السكان وقدرته الاستيعابية. إلا أنّه لم يتمكن بعد 7 سنوات من الحرب السورية، من أن يُبلور قراراً رسمياً تجاه أزمة النزوح. تبدو الدولة اللبنانية، من خلال انقسام مكوناتها السياسية، مُستقيلةً من هذه المهمة، على الرغم من أهمية الملف وأبعاده الاستراتيجية. يُمكن الحديث عن سياسةٍ لرئاسة الجمهورية والتيار الوطني الحرّ وفريق 8 آذار السياسي، مؤيدة لعودة آمنة للنازحين غير مشروطة بالحلّ السياسي في سوريا، ولكن ليس عن «سياسة دولة». فالموقف العلني لرئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، وبقية الأحزاب التي كانت منضوية تحت عباءة فريق 14 آذار، هو العمل على إعادة النازحين إلى بلدهم «بشكل طوعي…. فقناعتي أنّ النظام في سوريا، يريد أن ينتقم من النازحين ويضع شروطاً على عودتهم» (كما قال الحريري في خطابه يوم 14 شباط)، في تماهٍ كلّي مع وجهة نظر الدول الغربية، الرامية إلى إبقاء النازحين في البلدان المضيفة، أو إعادة توطينهم في بلدانٍ ثالثة.

استفادت الولايات المتحدة الأميركية وعدد من الدول الأوروبية من الشرذمة اللبنانية، فكانت هذه ذريعتها لفرض سياستها على البلد، وتحويل ملفّ النازحين من أزمة إنسانية، إلى أداة تطويع سياسية. فـ«المجتمع الدولي» ليس مؤسسة محايدة تعمل على إيجاد الحلول «السلمية» للأزمات «الإنسانية»، والتقريب بين الجهات المتنازعة، بل طرف في معركة كسر الدولة السورية وتدمير بنيتها الديمغرافية. الحؤول دون عودة المواطنين إلى سوريا، سلاحٌ يُستخدم في هذه الحرب. غياب المقاربة اللبنانية الموحدة، خلق فراغاً يسدّه «المجتمع الدولي»، من خلال أموال الدول المانحة، «استجابةً لأزمة النزوح». مبالغ ضخمة أُغدقت على البلد (بلغت 6.7 مليارات دولار، منذ الـ2011، بحسب وكالة الأمم المتحدة للاجئين. مع سعي الأخيرة، إلى استجلاب 2.6 مليار دولار في الـ2019)، وُزّع القسم الأكبر منها مباشرةً على المنظمات الدولية والمؤسسات غير الحكومية، من دون المرور بالدولة اللبنانية، كما تقتضي الأصول.

وفي عام 2018 وحده، بلغت الأموال المصروفة من 10 دول مانحة (الولايات المتحدة الأميركية، الاتحاد الأوروبي، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، هولندا، كندا، النروج، اليابان) ملياراً و477 مليوناً و939 ألف دولار. هذا الرقم، هو نموذج جديد عن كيفية تعامل «المجتمع الدولي» مع بلدان العالم الثالث، وتنصيب نفسه صاحب صلاحيات فوق العادة، تسمح له بتخطّي المؤسسات الرسمية وصرف الأموال بما يجده مناسباً. وفي مراجعة لعشرة مراسيم صادرة عن مجلس الوزراء، ومنشورة في الجريدة الرسمية، بشأن التبرعات والهبات الواردة إلى الخزينة لعام 2018، يتبين ما هو أسوأ. توجد أربعة مراسيم فقط، تذكر بوضوح أنّ «الهبة هي لدعم جهود الاستجابة لتداعيات النزوح السوري إلى لبنان».

ويبلغ حجم الهبات الأربع: 21 مليوناً و25 ألفاً و972 مليون دولار أميركي، مُقسّمة بين هبة مُقدّمة من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، وهبتين من اليونيسف، وهبة من الحكومة الهولندية. اللافت للنظر، أنّه لا «دليل» في الخزينة اللبنانية على المليار و477 مليون دولار، التي دفعتها الدول المانحة العشر، إلا المبلغ المُقدّم من حكومة هولندا (يبلغ قرابة 4 ملايين دولار)، في حين أنّ مُجمل المبلغ الباقي، مُقدّم من مُنظمتين تابعتين للأمم المتحدة. يتطابق ذلك مع كلام مصادر رسمية، بأنّ الدولة اللبنانية «لا علم لديها بحجم الأموال الواردة إلى البلد، ولا بكيفية توزيعها على المنظمات غير الحكومية ومؤسسات الأمم المتحدة، وطريقة صرفها. من دون إغفال أنّ قسماً من هذه الأموال يذهب مُباشرةً إلى النازح السوري ضمن برنامج العيّنات النقدية المباشرة، التي تهدف إلى ترغيب النازح بعدم العودة إلى بلده».

ليست المشكلة في دعم البلدان المضيفة مادّياً، فهذا الأمر أساسي لتمكين الدول (ولا سيّما تلك التي تعاني من تعثّر اقتصادي ومالي) من تخطّي التحديات التي تسبّبها استضافة أعداد كبيرة من النازحين. ولا بُدّ أيضاً من أن ترتفع مُساهمة الدول العربية – الخليجية أولاً، والغربية ثانياً، كنوع من المُشاركة في تحمّل المسؤولية عن تهجير السوريين من أوطانهم. إلا أنّ الخطورة من دفع المال، تكمن في استباحة السيادة الوطنية للدولة، وفي أن يُصبح البلد سائباً أمام أموال «المجتمع الدولي» حتّى تُصرف بحسب ما تقتضي الأجندة السياسية لـ«الدول المانحة»، من دون أي رقابة لبنانية. والنقطة الثانية التي لا تقلّ خطورة، هي المُساعدات المادية المشروطة بتسجيل عدد من النازحين وتوظيفهم، في تمهيد لتوطينهم في بلدان اللجوء. في ذكرى 14 شباط، حاول الحريري تسخيف النقطة الأخيرة، مُعتبراً أنّ «هناك من يرى برنامج سيدر رشوة للقبول بالتوطين».

إلا أنّ ما يصدر عن منظمات «المجتمع الدولي»، في هذا الخصوص، يُقدّم دليلاً يدحض كلام رئيس الحكومة. فالتوجه العام لجميع الدول المانحة في ما خصّ منطقة الشرق الأوسط، يقضي برهن المساعدات المادية ببقاء النازحين في بلدان النزوح أو إعادة توطينهم في بلد ثالث. ثمة أمثلة عديدة على ذلك، تذكرها مصادر رسمية: منظمة «Secours Islamique France» غير الحكومية، تشترط لقاء أي نشاط تُنظمه توظيف عدد من النازحين. في القرض الذي تتفاوض عليه الدولة اللبنانية مع البنك الدولي، يُحكى عن منح 70 مليون دولار، على أن يكون هناك في المقابل خلق وظائف للنازحين. والوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، «تشترط أن يكون هناك ما لا يقل عن 30% من الوظائف في المشاريع الزراعية التي تدعمها، مُخصصة للنازحين». يُضاف إلى ذلك، التقرير الذي نشرته منظمة «راند» (ممولة أساساً من وزارة الدفاع الأميركية)، عبارة عن دراسة تتحدث فيها عن أهمية الاستفادة من اليد العاملة السورية في لبنان وتركيا والأردن.

لدى «المجتمع الدولي» قرار سياسي واضح بشأن النازحين السوريين. في المقابل، يتلهى أركان الدولة اللبنانية بانقساماتهم، فيعجزون عن وضع تصور لكيفية مقاربة الأزمة. لا يتعلق الأمر فقط برفض التواصل المباشر مع الدولة السورية، وتوكيل المهمة إلى الأمن العام اللبناني، بل يتعداه إلى أمور تنفيذية أخرى. لبنان لا يمتلك رقماً دقيقاً لأعداد النازحين، بغياب الفارق الواضح بين المُسجلين لدى مفوضة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والسوريين غير المُسجلين. نقاط وجودهم غير مُحدّدة. لا توجد دراسة جدية، بعيداً عن الكلام العنصري بحق النازحين وغير المبني على أساس علمي، تتحدث عن تأثير وجودهم على المجتمع المضيف. دفن الدولة رأسها في الرمال، وتغييبها لنفسها عن حلّ أزمة النزوح، سهّلا على «المجتمع الدولي» التصرّف في البلد وكأنّه «وكالة من غير بوّاب» على ما يقول المثل الشعبي المصري. والأكيد أنّ أموال الدول المانحة ستبقى تصل إلى لبنان، علناً، ومن دون أن يكون للمؤسسات الرسمية حقّ المعرفة بها والرقابة على التصرف بها، ما دامت الحكومة لم تتصرّف مع هذا الأمر بصفته مسّاً بأمن البلاد وسيادتها.