كتب خيرالله خيرالله في “العرب اللندنية”:
ليس فشل المعترضين على الولاية الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة سوى فصل آخر من المأساة الجزائرية. إنّها مأساة من نوع خاص جدا تفرض طرح سؤال في غاية البساطة: من المريض فعلا؟ هل بوتفليقة مريض أم الجزائر نفسها هي المريض الحقيقي؟
لم تستطع الجزائر الخروج من أسر سنوات طويلة فرضها نظام الحزب الواحد على الرغم من أن الدستور الجديد يسمح بتعددية سياسية وحزبية. أجري إصلاح للنظام من دون إصلاحه. تسيطر في الواقع على هذا النظام أجهزة أمنية مرتبطة برجال أعمال ينتمون إلى دوائر معيّنة يحتكرون معظم العمليات المالية والتجارية.
في السنوات العشرين الأخيرة، لم يتغيّر الكثير في الجزائر على الرغم من أن بوتفليقة والدوائر الضيقة المحيطة به نجحا في تقليص نفوذ الأجهزة الأمنية، خصوصا بعد التخلص من الجنرال محمد مدين (توفيق)، مسؤول المخابرات العسكرية، الرجل الصامت الذي كان يمتلك نفوذا كبيرا جعل منه صانع الرؤساء.
كان انتخاب عبد العزيز بوتفليقة رئيسا في العام 1999 فرصة كبيرة للجزائر كي تلتقط أنفاسها وتعيد بناء نظامها والوصول إلى مرحلة يكون فيها تبادل للسلطة. لا معنى لأي ديمقراطية من دون تبادل للسلطة في ظروف طبيعية وليس في ظروف بلد مثل لبنان، مثلا، كان من الدول الرائدة في المنطقة في هذا المجال. بقي لبنان يتمتع بالريادة إلى أن أصبح تحت الوصاية السورية ثم الوصاية الإيرانية التي تتميّز بوقاحة ليس بعدها وقاحة.
صار “حزب الله” يقرّر من هو رئيس الجمهورية في لبنان. أبقى الحزب، الذي هو كناية عن ميليشيا مذهبية مسلّحة، مجلس النوّاب مقفلا طوال سنتين ونصف سنة قبل أن يسمح بانتخاب رئيس للجمهورية. كان هذا الرئيس الجديد للبنان المرشّح الذي اختارته “بندقية المقاومة” لشغل هذا الموقع.
بقى البلد من دون حكومة طوال ثمانية أشهر وأسبوع بعد الانتخابات النيابية الأخيرة قبل أن يفرض الحزب “معاييره” لتشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري الذي واجه ضغوطا من كلّ الأنواع في ظـروف في غاية التعقيد على الصعيدين الداخلي والإقليمي.
بكلام أوضح، طرأ تغيير جذري على النظام في لبنان. حصل تعديل لاتفاق الطائف عبر الممارسة من دون الإعلان عن ذلك. هناك في لبنان من يعمل في الخفاء والعلن في الوقت ذاته من أجل نقل البلد إلى مرحلة جديدة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بأي ممارسة ديمقراطية.
تستهدف مثل هذه المرحلة جعل لبنان يسقط أكثر في أزمة اقتصادية عميقة يعمل الرئيس سعد الحريري على معالجتها عن طريق ما يمكن أن يحصل عليه البلد من مساعدات عربية ودولية وتسهيلات خارجية.
يسير لبنان، منذ الانفجار الداخلي في العام 1975، من سيء إلى أسوأ، إذا استثنينا مرحلة رفيق الحريري. كان يتمتع منذ الاستقلال، في العام 1943، بحياة سياسية سمحت بتداول سلمي للسلطة وازدهار اقتصادي وثقافي وتربوي.
توقف لبنان عن عملية تطوير نظامه، على الرغم من أن اتفاق الطائف للعام 1989، كان يسمح بذلك. جاء النظام السوري لتطبيق الطائف على طريقته. جاء الإيراني بعد ذلك ليدخل لبنان في المجهول عن طريق وصاية من نوع آخر لا أفق لها غير مزيد من البؤس والعزلة.
في المقابل، لم تستطع الجزائر تطوير نظامها السياسي بعد أحداث أكتوبر 1988. كشفت تلك الأحداث كم الحاجة كبيرة إلى نظام جديد، خصوصا بعد نجاح الجيش في إنقاذ الجمهورية وبدء البحث عن خيارات أخرى مختلفة في أواخر العام 1998 تمهيدا للإتيان بعبدالعزيز بوتفليقة رئيسا للجمهورية. وقع الخيار على بوتفليقة بصفة كونه شخصية تمتلك شرعية تاريخية وقبولا على المستوى الوطني.
ثمة من سيقول أن لا مجال لمقارنة بين لبنان والجزائر. الجواب أن المقارنة ضرورية. كشفت التجربتان الجزائرية واللبنانية مدى التراجع الذي يعاني منه بلدان عربيان كانا مؤهلين ليكونا من الدول الصاعدة في المنطقة الممتدة من البحر المتوسّط إلى شمال أفريقيا.
معروف لماذا فشل لبنان. هناك مسؤوليات تقع على اللبنانيين أنفسهم. لكن الوطن الصغير كان في كلّ وقت عرضة لأطماع خارجية. بلغت هذه الأطماع درجة كلام مسؤولين إيرانيين وغير إيرانيين عن أن النجاح الأكبر الذي حققته “الثورة الإسلامية”، في خلال أربعين عاما، كان إنشاء “حزب الله” وضع اليد على لبنان عبره.
من دون تجاهل عامل الجهل اللبناني، وهو عامل يشكل قاسما مشتركا بين المسيحيين والمسلمين، كانت هناك دائما رغبة سورية في دفع لبنان إلى أن يكون محميّة تدار من دمشق. كان الخوف من إفلات لبنان من الهيمنة السورية وراء اغتيال رفيق الحريري في فبراير 2005. دفع رفيق الحريري ثمن إعادة الحياة إلى لبنان ووضعه مجددا على خارطة المنطقة والعالم.
كان في استطاعة بوتفليقة أن يكون أملا جديدا للجزائري. لم يكن هناك من يريد اغتياله. لكنّ الرئيس الجزائري بقي رهينة عقد لم يستطع التخلّص منها في أي وقت. على رأس هذه العقد، عقدة المغرب حيث ولد وأقام حتّى السابعة عشرة من العمر في بلدة وجدة. لم تكن عقدة المغرب وحدها التي تحكمت ببوتفليقة، هناك عقدة تجمع بين معظم الزعماء العرب الذين يرفضون التنازل عن السلطة.
في النهاية، إن رجلا مثل الحبيب بورقيبة الذي بنى تونس الحديثة والذي لا يختلف كلّ من له علاقة بالحضارة حول ما حقّقه من إنجازات، سقط في امتحان نقل السلطة إلى خليفة له عندما بات عاجزا عن تحمل مسؤولياته. وقع بورقيبة في أسر الحلقة الضيّقة المحيطة به. يمكن تعداد عدد كبير من الزعماء العرب نسوا معنى الانتقال السلمي للسلطة ودور التقدّم في السنّ في جعل الإنسان يفتقد قدراته الذهنية والجسدية. هذا مرض عربي ومرض موروث من أيام الحرب الباردة حيث بقي الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف في السلطة إلى اليوم الأخير من حياته في 1982 على الرغم من أنّه فقد قدرته على ممارسة صلاحياته منذ ما يزيد على خمس سنوات، منذ 1979 في أقلّ تقدير.
توفرت لبوتفليقة فرصة دخول التاريخ. لم يفعل ذلك. هل للقرار الذي كُتب نصّه له والذي يعلن فيه ترشيح نفسه لولاية خامسة علاقة بمستقبل المحيطين به الخائفين من أن يلاحقهم القضاء بسبب ارتكابات معيّنة؟ الأرجح أن ذلك هو بين الأسباب الرئيسية لصدور البيان الذي لا يستطيع بوتفليقة قراءته، أو ربّما فهم فحواه.
يكتب الرئيس الجزائري فصلا جديدا من المأساة الجزائرية التي كان مفترضا به أن يضع نهاية سعيدة لها. تماما مثلما هناك فصل جديد للمأساة التي يعيشها لبنان منذ 1975 والتي حال اغتيال رفيق الحريري دون خروجه منها.