كتب علي الأمين في صحيفة العرب اللندنية:
لم تكن الحرب السورية التي خاضها حزب الله نزهة، ولم تكن بطبيعة الحال انتصارا له ولإيران كما يروج له قادته ومناصروه، وهي أيضا ليست كما يحلو للبعض أن يقول إنها جعلت حزب الله أكثر قوة في مواجهة إسرائيل، كما يردد إعلام “الممانعة والمقاومة” الذي روّج لمقولة إن حزب الله ذاهب إلى سوريا لمواجهة إسرائيل، بل للتصدي للولايات المتحدة نفسها وكل الغرب المتآمر.
هذه الحرب التي سبّبت مقتلا لمئات آلاف السوريين وتهجيرا للملايين منهم وتدميرا لمئات الآلاف من البيوت والمؤسسات، لم تكن كما قال عنها أمين عام حزب الله مرات عدة إن طريق القدس تشق من حلب وحمص والرقة.. أي من المدن السورية، بل هي فعل تدمير لمشروع التغيير في النظام الأمني والدكتاتوري، نحو حكم نابع من الشعب ومن إرادة السوريين. انتصار حزب الله أو المهمة التي أنجزها في سوريا، خلصت إلى سيطرة منظومة دولية إقليمية باتت تتحكم بسوريا اليوم، وحزب الله فيها ليس إلا بيدقا من بيادقها.
ثمة دمار لا يقل عن ذلك، أحدثه القرار الإيراني بإدخال حزب الله إلى سوريا، فالحرب ليست نزهة حين تكون في مواجهة عدوّ لا لبس فيه، فكيف إذا كانت ضد عدوّ ملتبس، ذلك أن مقاتلي حزب الله الذين تمّ جرهم في البداية للقتال في سوريا، وبذل جهد كبير لإقناعهم بأن هذه الحرب مقدسة، وتمّ استصدار فتاوى دينية وسياسية غبّ الطلب تؤكد أن الموت أمام الساعين لتغيير نظام الأسد وإسقاطه هو أشرف من الموت في مواجهة العدو الإسرائيلي، فهذا التوجه نحو الدفاع عن نظام الأسد، ولو على حساب ملايين السوريين الذين انتفضوا في وجهه، لم تكن تداعياته سطحية على بيئة حزب الله ولن تكون في المستقبل قابلة للتحكم والسيطرة، والأرجح أن ثمة انهيارات يشهدها في منظومة القيم السياسية والاجتماعية والدينية، بدأت آثارها تصيب بنية الاجتماع السياسي والديني الذي صار منتهكا بقيم القوة والاستقواء والنفوذ، التي كشفت عن خلل وتباين شاسع بين المحازبين، الذين باتوا ينظرون إلى حزب الله باعتباره سلطة جاثمة على صدورهم، فيما هم يشاهدون كيف نما نفوذ تجار الحرب والسلطة وكيف تغلغل الفساد بأبعاده المتعددة إلى هذا المحيط الأيديولوجي والسياسي والأمني والعسكري.
استخدم حزب الله في سبيل تعزيز نفوذه السياسي في لبنان، وسيلة الإفساد من أجل جذب المؤيدين والمناصرين والأتباع لاسيما على مستوى السلطة. طالب الآخرين بالولاء مقابل إغراء الفساد، أي “كن معنا وأفعل ما شئت في المال العام ونحن من يحميك”. وسيلة الإفساد كمعبر للسيطرة والتحكم لا يمكن ضبطها، فهي منهج سيتسلل إلى داخل بنية حزب الله وإلى نظام علاقته مع بيئته وجمهوره القديم والمستجد، وهكذا كانت الحرب السورية مجالا لترسيخ منظومة الفساد ومراكز القوى داخل حزب الله.
في الحرب السورية أعلن حزب الله أولوية القتال في هذا البلد، وتطلب ذلك استحضار كل ما يشد العصب المذهبي وتصوير ما يجري في سوريا على أنه استهداف من قبل السنّة المتطرفين للشيعة، هكذا خاطب قاعدته، فكان الشعار الشهير ولا يزال في هذه الحرب “لن تُسبى زينب مرتين” وهو الشعار الذي تمّ تعميمه بوسائل إعلانية وتعبوية طالت كل مكان فيه مجموعة من السكان الشيعة، ولم يكن من شعار يوازي هذا الشعار أو يلامسه في خطاب حزب الله لجمهوره والجماعة الشيعية في لبنان، وبات كل من يتصدى لهذا الشعار في نظر حزب الله خارج الملة.
من أبرز نتائج هذا الانخراط في الحرب السورية، هو ترسيخ الهوية المذهبية وأولوياتها على حساب أي مشروع جامع سواء كان وطنيا عربيا أو إسلاميا. إسرائيل ليست مصدر القلق الوجودي، وشعارات التحرر من الاستبداد موصولة بما يقوله المرشد علي خامنئي أو وكيله العام في لبنان حسن نصرالله، وما يقوله هؤلاء في الخطاب الأيديولوجي وفي تمثلاته في “البيئة الحاضنة”، أن الخطر هو الإسلام غير الشيعي، أو النظام السعودي، وحتى الولايات المتحدة لم تعد عدوا في التعبئة الحزبية، وما يقال مثلا ضد الإدارة الأميركية من أوصاف واتهامات هو أقل بكثير مما يقال ضد النظام السعودي، والجرأة على أي نظام عربي هي أكثر بكثير من الجرأة على إسرائيل ولا نقول واشنطن.
حزب الله أراد أن يحمي نفسه دولياً، فالتزم بالخطوط الحمراء منذ بداية التدخل في سوريا واليمن والعراق، كما التزم بعدم المسّ بإسرائيل وعدم التعرض للمصالح الأميركية والغربية، وهذا سلوك تفهمه القاعدة الحزبية رغم محاولات التذكير بالعداء لإسرائيل وأميركا. ورغم الضربات التي تلقاها حزب الله في سوريا من قبل إسرائيل طيلة السنوات الماضية، لم يبادر إلى أي فعل عسكري للرد على الاعتداءات عليه. قاتل الثوار السوريين بشراسة، لكنه كان شديد الحذر من أن يقوم بأي فعل عسكري ضد أي مؤسسة غربية أو أميركية أو صهيونية.
الصواريخ والطائرات الإيرانية المسيرة استخدمت من قبل الحوثيين ضد السعودية والإمارات العربية، لكنها لم تستخدم ضد من احتل القدس التي أنشأت إيران فيلقا باسمها، ولم يطلق رصاصة من أجل تحريرها أو ضد تهويدها، فيما جنوده ينشطون في العراق وسوريا واليمن.
التداعيات هي أن حزب الله نجح إلى حدّ كبير في تحويل الصراع في المنطقة وفي مخيلة محازبيه إلى صراع داخلي بين مكوناتها، فأصبح انخراطه في هذه الحرب عامل إغراء لتل أبيب، في كونه يُظهر أهمية وجود إيران كعنصر لاجم لأي حيوية في المنطقة العربية معادية للاحتلال الإسرائيلي، بينما الأهم من ذلك، أن حزب الله اليوم، بإرادته أو رغما عنه، تحوّل إلى حاجز دفاعي عن إسرائيل، عندما صار العمق العربي، والسوري على وجه التحديد، مصدر خطر على الحزب بعد الشرخ العميق مع هذا العمق الذي سببه تدخله في هذا البلد.
الفساد ينخر بيئة حزب الله وبنيته، فهذه الحرب غيّرت نظام الأولويات، ولم تعد هناك قضية يناضل من أجلها، فلكونه حزبا أيديولوجيا هو بحاجة لأن يقدم نفسه كقوة مناضلة من أجل هدف سامٍ، فهو لم يألف في سلوكه السياسي إلا الحرب، ولم يتقن استخدام خطاب السلم ولا رسم برامجه. لم يكن الولاء للوطن والدولة في تاريخه قائما، فهو لم ينظم وجوده في لبنان إلا على ثابتة ضعف الدولة، فجعل منها قوة بقائه واستمراره. أولوياته الإيرانية جعلته اليوم ينكشف على انتظار التوجيهات من ولي الفقيه من جهة، وفي نفس الوقت العجز عن تلبية متطلبات لبنانية لمنع الانفجار الداخلي.
ظاهرة الفساد تنخر بيئة حزب الله، فعناصره تتورط في عمليات التهريب عبر الحدود فتشكل منهم مافيات تسيطر على جزء كبير من إنتاج الكهرباء عن طريق المولدات الخاصة، وتحولت موارد المجالس البلدية إلى مصدر لتوزيع مكاسب لبعض مراكز القوى داخل حزب الله.
انتشار مظاهر الفساد تسبب بتراجع الالتزام الديني بين أفراد الحزب، مع سيطرة ذهنية الانتفاع بالطرق الملتوية وغير المشروعة، وما يرافق ذلك من أزمات اجتماعية غير مسبوقة لدى قاعدة حزب الله والبيئة الحاضنة له، كل ذلك يجعل الحزب أمام مخاطر جدية لا مجال للتخفيف من تداعياتها على نفوذه وتماسكه، فهو غير مستعد لحرب يدرك أنها هذه المرة ستكون وجودية، خصوصا مع عجزه عن الانضواء في صيغة وطنية لبنانية لأنه يدرك أن ذلك خطر أيضا على هويته، التي لم تكن إلا هوية أيديولوجية أمنية عسكرية، وهو في النهاية عاجز عن أن يكون حزبا سياسيا كبقية الأحزاب في لبنان.