كتب نقولا ناصيف في “الاخبار”:
انقضاء أيام على جلسة مجلس الوزراء لم يقلّل من وطأة سجال أحاط بها، بشقه الدستوري المرتبط بما أدلى به رئيس الجمهورية قبل أن يعلن ختمها، وشقه السياسي بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية حيال ملف النازحين السوريين.
دافع البعض عن موقف رئيس الجمهورية ميشال عون في الجلسة الأولى لمجلس الوزراء، الخميس الفائت (21 شباط)، وعدّه بعض آخر اجتهاداً في ممارسة الصلاحيات. في جانب من السجال، اعتقاد بانطوائه على اشتباك على الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، وبينه وبين مجلس الوزراء. في وسع كل من الأفرقاء الثلاثة هؤلاء، القول إنه على صواب في تغليب وجهة نظره على الآخر، والإصرار على أنه هو صاحب الاختصاص الدستوري.
ما دار في جلسة الخميس سابقة، بقدر ما هو مهم في أكثر من جانب: عندما حدّد رئيس الجمهورية المرجعية التي تقدّر «المصلحة العليا للبلاد»، وهي في حسبانه رئيس الدولة بالذات، وعندما قدّر أيضاً وقت ختم جلسة مجلس الوزراء قبل استنفادها المناقشات كاملة وإبداء الجالسين جميعاً وجهات نظرهم، وهو حق رئيس الجلسة، وعندما قدّر أيضاً وأيضاً التمييز بين موضوع يكتسب الطبيعة الكيانية غير القابل للجدل وآخر ذي طابع سياسي بحت يحتمل التباين والخلاف في كل تفصيل فيه.
الرئيس حسين الحسيني في المقلب الآخر من موقف رئيس الجمهورية.
ليس بين الرجلين ودّ ظاهر، يُعزى معظمه إلى ما رافق عامي 1988 و1990 إبان حقبة الحكومتين، ورفض عون اتفاق الطائف، والرجلان كانا في قلب السلطة المنقسمة على نفسها حينذاك. الآن، لا يلتقيان إلا في المناسبات الرسمية، وليس كلها حتى. في احتفالي الاستقلال عامي 2017 و2018 اعتذر الحسيني. كذلك غاب عن الإفطار الرئاسي في رمضان 2018. يجتمعان عندما يرغب رئيس الجمهورية في التشاور مع الرئيس السابق للبرلمان، ويدعوه.
آخر مرة ذهب الحسيني إلى قصر بعبدا كان خلال «محنة» رئيس الحكومة سعد الحريري في الرياض، واحتجازه هناك وإدلائه منها ببيان استقالته في 4 تشرين الثاني 2017. وقتذاك، طلب عون التشاور مع الحسيني في السابقة الدستورية هذه: استقالة حكومة من وراء الحدود، وظروفها والخطوات الواجب اتخاذها، قبل أن يقرّر الرئيس رفضها في ما بعد.
سأله ماذا ينبغي فعله؟
ردّ الحسيني بسؤال: ماذا يقول السعوديون؟
قال عون: يقولون إنه سعودي.
سأل: أليس سعودياً؟
أجاب: بلى، لكنه – كما فعلوا من قبل مع أبيه – أجازوا له أن يصير رئيساً لحكومة لبنان.
قال الحسيني: كيف يسعنا أن نقبل؟ إذا طالت الأزمة دخلت البلاد في فراغ. رأيي أن تقبل استقالته، ويصير إلى تأليف حكومة طوارئ تتحرك من أجل استعادة لبناني، كان رئيساً للحكومة، محتجز لدى دولة. موقف كهذا تتفهّمه الدول، ويوحّد اللبنانيين.
اكتفى رئيس الجمهورية بما سمعه. سرعان ما أنجد الفرنسيون الحريري لإطلاقه.
كان ذلك آخر لقاء بين الرجلين.
للحسيني رأي مناوئ لتصرّف عون في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، يستند إلى المعطيات الآتية:
1 ـ ليس لرئيس الجمهورية أن يحدّد بمفرده ما ينطبق – أو لا ينطبق – مع قاعدة «المصلحة العليا للبلاد». ليس مجلس الوزراء أيضاً مرجعية تحديد هذه القاعدة، بل المجلس الأعلى للدفاع الذي نشأ منذ اتفاق الطائف برئاسة رئيس الجمهورية يكون رئيس الحكومة نائبه ويضم وزراء الخارجية والاقتصاد والمال والدفاع والداخلية. المجلس الأعلى الذي هو مؤسسة دستورية موازية لمجلس الوزراء، ولا يتقدّم عليه، يحدّد «المصلحة العليا للبلاد»، ويُصدر توصيات تحال على مجلس الوزراء الذي يقرّر وضعها موضع التنفيذ. مع أن رئيس الجمهورية هو رئيس المجلس الأعلى للدفاع، بيد أنه لا يملك حق الاستئثار والتفرّد في الموقف والقرار. للآخرين المشاركين في المجلس، دور مهم في تقدير الموقف والخطوات الواجب اتخاذها قبل الوصول إلى التوصيات.
بذلك لا يقتصر دور المجلس الأعلى للدفاع على الشقين العسكري والأمني – وهما إحدى وظائفه – بل يطاول كل ما يتعلق بسياسات الدولة، ما يفترض أن ينضم إلى هيئته وزراء مختصون آخرون أيضاً.
2 – في الموقف الذي أدلى به رئيس الجمهورية في مجلس الوزراء، ليس ثمة مبرّر للصمت الذي التزمه الحريري، إلا إذا كان في سياق استمرار تخليه عن صلاحياته، والاكتفاء بالتفرّج على ما يدور من حوله. فهو رئيس مجلس الوزراء وليس رئيس الجمهورية الذي لا يملك أن يصوّت، خلافاً لمكانة الرئيس في المجلس الأعلى للدفاع، رئيسه وله أن يصوّت شأنه كأي عضو آخر. كان يقتضي بالحريري أن لا يمرر ما حصل، إلا إذا لم يكن يريد أن يكون ما هو عليه، أو لا يريد إزعاج رئيس الجمهورية.
3 – مذ أضحى مجلس الوزراء مؤسسة دستورية مستقلة، وهو ما تنص عليه صراحة المادة 65 من الدستور، بات أشبه بقيادة جماعية للبلاد. أعضاؤه فاعلون ومؤثرون وأصحاب القرار مجتمعين، لا يكتفون بالتصويت، بل أيضاً يشاركون في رسم السياسات العامة للبلاد. تالياً، إن مجلس الوزراء هو الذي يضع السياسات تلك.
ولأن رئيس الجمهورية ليس رئيساً لمجلس الوزراء، ولا حتماً عضواً فيه، إذ يرأس الجلسة عندما يحضر، فإن قرارات المجلس لا تصبح نافذة إلا بعد اقترانها بتوقيعه. يستمد هذا الموقع من كونه ليس طرفاً في مجلس الوزراء، ويقتضي أن لا يكون. وهو مبرّر امتلاكه صلاحيات دستورية لا يقاسمه إياه أحد مثل دوره الحصري في التفاوض مع الدول (المادة 52) وتوقيعه القوانين والقرارات (المادة 56) وطلب إعادة النظر في القوانين (المادة 57) وتعليق أعمال مجلس النواب لشهر (المادة 59) وموافقته الملزمة لتعديل الدستور التي تحمل البرلمان – صاحب اقتراح التعديل – في حال إصرار الرئيس على الرفض على توفير غالبية الثلثين ثم ثلاثة أرباع البرلمان، وصولاً إلى حلّ المجلس إذا تشبّث الرئيس بالرفض، إلى أن يأتي برلمان جديد يبتّ الخلاف بين رئيس الدولة ومجلس النواب (المادة 77)، وهو أيضاً صاحب صلاحية تعديل الدستور (المادة 76).
4 – رغم إصراره على أن رئيس الجمهورية حَكَمٌ بين الأفرقاء والجالسين إلى طاولة مجلس الوزراء، ولا يسعه أن يكون أحدهم، إلا أن الحسيني يعتقد بأنه لا يزال حَكَمَاً، لكن بلا صافرة – ما ينتقص في رأيه من هيبة المنصب وموقعه ودوره – جراء عدم إقرار خمسة قوانين أوصى بها اتفاق الطائف ونصّ عليها، ولم يصر إلى وضعها بعد: قانون الانتخاب، قانون تنظيم أعمال مجلس الوزراء، قانون الدفاع الوطني، قانون السلطة القضائية المستقلة، قانون التنمية الشاملة.