كتب النائب القسيس ادكار طرابلسي في صحيفة “اللواء”:
يتفاجأ البعض بأنّي أؤيّد الزواج المدني، ومنهم مَنْ يستنكر ذلك. فكيف لمسيحي مؤمن ولرجل دين أنْ يؤيّد زواجاً مدنياً يُروّج له معتنقو العلمنة على اختلافهم، وتدينه المرجعيات الدينية، ويتوجّس منه الأتقياء! ورُب سائلٍ: ألا يتعارض الزواج المدني مع سر الزواج المسيحي؟، طبعاً قليلون يفهمون القوانين الكنسية والمدنية المرتبطة بالأحوال الشخصية، وأقل منهم الذين تعمقوا في الموضوع باللاهوت والتاريخ المسيحي.
الزواج المسيحي في التاريخ
مَنْ يدرس التاريخ الكنسي يتفاجأ بأنّ الكنيسة الأولى اكتفت بطلب البركة على الذين سبق وتزوّجوا لدى السلطات المدنية، ولم تُمارس عقد القران بالمفهوم القانوني، إذ لم تكن طائفةً معترفاً بها من جهة، ولم تُطالب بهذا الحق من جهة أخرى. وبقِيَت كذلك إلى ما بعد إعلان الدين المسيحي كدين للدولة، أيام فلافيوس ثيوذوسيوس أوغسطوس، في العام 380 م. وبعد هذا التاريخ أعطت الدولة الأساقفة صلاحياتٍ قضائيةً سمحت لهم بإتمام عقود الزواج عند إقامة الأعراس ولكن بالإستناد إلى قوانينها المدنية.
من الجدير ذكره، أنّه، وقبل إعطاء الكنيسة حقها بإجراء الأعراس، لم يكن أحد يتحدّث عن زواج باطل، ولا عن خروج على الدين، ولا عن مخاطر التفلّت، وغيرها. كما أن الكنيسة لم تقبل أن تُقيم عرساً أو تطلب بركة لعروسين من دون عقدٍ قانوني يُجريه موظّف، ولو كان وثنياً، بإسم القانون والدولة والمجتمع. ولم تكن للكنيسة قوانين للأحوال الشخصية تُنظم شؤون الزواج والطلاق وغيرها إلا بعد العام 920م، وطوّرتها في مجمع اللاتيران الرابع في العام 1215م، واعتبرت الزواج كأحد أسرار الكنيسة السبعة في مجمع ترانت في العام 1563م.
طبعاً مَنْ يعرف المسيح، ويتمسّك بتعاليمه، يُكرّم الزواج، ويرفض المساكنة والزنى، ويطلب لزواجه بركة الله وصلوات كنيسته ودعمها الروحي، وفي نفس الوقت يحرص على أنْ يكون لزواجه عقدٌ مدني أو قانوني ضامنٌ أكانت تُجريه السلطات المدنية أو السلطات الكنسية. لكن السؤال الذي يُطرح الآن، وبعد أنْ نالت الكنيسة حقاً بأنْ تكون لديها قوانين أحوال شخصية، لماذا تفرض على غير المؤمن، أو غير الملتزم فيها، أنْ يأتي مُكرهاً إليها لتُقيم له مراسم زواجه؟ ولماذا تُصوّر الكنيسة أمر عقدها للزواج (القانوني) كأنّه سلطان إلهي نزل إليها من علياء، ومارسته من أوّل يوم لتأسيسها؟ لماذا لا تقول الكنيسة الحقيقة بأنّها نالت من السلطات المدنية الحق بإتمام عقود الزواج؟
دور الكنيسة في عقد الزواج
على الكنيسة في بلادنا أن تُفسّر للناس أنّه لإتمام الزواج لديها – بحسب القوانين الحالية – هناك فَرضان على الأقل يجب أن يُتمّما. الأول، هو أنْ تُقيم المراسيم الدينية التي تُعبر عن فهمها للزواج، أكان سرّاً مُقدّساً كما في الكنيستين الكاثوليكية والأورثوذكسية، أو عهداً مُقدّساً مع الله كما في الكنيسة الإنجيلية. والثاني، أنّها تقوم بإجراء عقد مَدَني بين العروسين، يبدآن به في توقيعهما لسجل الزواج أمام السلطة الكنسية والشهود، ولا يصير منجزاً حتى التوقيع على وثيقة الزواج أمام المختار وتسجيله لدى دائرة النفوس.
إذاً الكنيسة تتشارك مع دوائر الدولة في إجراءات قانونية مدنية مُعيّنة ليست من صلب الطقس الديني لإتمام الزواج. لما لا تُصارح الكنيسة ناسها بأن الطقس الديني والسلطة الدينية وحدهما لا يُوحّدان عروسين ببضعهما البعض، بل يحتاجان إلى عقد مدني تُصادق عليه الدولة ليصير الزواج مكتملاً وشرعيا؟ والموضوع إذاً ليس فقط «سرّاً كنسياً» بل هو أيضاً «عقد مدني» يتشارك بالتوقيع عليه أضف إلى العروسين، شاهدان ورجل دين ومختار ومأمور نفوس.
الزواج المدني من وجهة نظر مسيحية
ويُطرح السؤال: لماذا أطالِب مع غيري من المؤمنين بالزواج المدني الاختياري؟ هل أريد أنْ تخسر الكنيسة حقها بإجراء الزواج؟ هل أريد أنْ أضرب الزواج المسيحي؟ أرجو ألا يتسرّع القارئ بأحكام مماثلة، وألا يذهب فكره نحو الاستنتاجات الخاطئة. أنا أؤيد قانون الزواج المدني، وأنْ يكون للكنائس (ولسائر الطوائف الدينية) حق إتمام عقود الزواج، إلى جانب الدولة، وحق التشريع في الأحوال الشخصية، لأسباب عديدة منها:
أولاً: أنْ يبقى القدوم إلى الكنيسة للزواج فيها خياراً حرّاً للمؤمنين. فالمسيح لم يُخوّل الكنيسة أنْ تفرض إيمانها ومعتقداتها وقوانين أحوالها الشخصية على مَنْ لا يُريدها. وليس من شِيَم المسيح إكراه الناس على دخول دينه وكنيسته بالقوّة.
ثانياً: أنْ تكون للناس الحرية في اختيار قوانين الأحوال الشخصية التي تناسبهم في رعاية شؤونهم وشؤون عائلاتهم، فالذي يُقدِم على الزواج عليه أنْ يسأل نفسه ما هي القوانين والمحاكم التي ستتولّى أمري وأمر عائلتي في حال حصول أي مكروه؟
ثالثاً: إنّ الناس في عصرنا قد ابتدأوا يَعُون موضوع حقوقهم الشخصية وحرياتهم إلى درجة كبيرة، ومنهم مَنْ ذهب إلى رفض الدين ومؤسّساته، ومنهم مَنْ اختار المساكنة أو التفلّت الجنسي، فالسؤال المطروح على الكنائس: هل الأفضل أنْ يعيش الناس في الخطية أو أنْ يتزوّجوا – كنسياً أو مدنياً – ويؤسّسوا عائلاتٍ مستقرةً؟
رابعاً: إنّ الاستمرار في التصلّب في رفض الزواج المدني لم يمنع الناس عن إجرائه في الخارج، وبذلك عبّروا عن تمسّكهم بحريتهم ورفضهم تسلّط المؤسّسة الدينية عليهم.
خامساً: إنّ رفض إعطاء الدولة – صاحبة السلطان القانوني والسياسي في المجتمع البشري – حقاً في إجراء الزواج المدني هو انتهاك صارخ لجوهر السلطة ولسيادة الدولة، التي أعطت الجماعات الدينية حقاً في إدارة أحوال أبنائها الشخصية. كيف للجماعات الدينية التي أخذت حقها من الدولة أنْ تحرمها حقها؟، ألا يتعارض هذا مع مفهوم فصل الدين عن الدولة المبني على تعليم المسيح: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله».
سادساً: لا يقدر المسيحي في لبنان والشرق أنْ يكون مختلفاً عن غيره من المسيحيين في العالم أجمع. فهناك، في كافة البلدان المسيحية، زواج مدني (اختياري أو إلزامي) يُحافظ على حرية الإنسان وحقه في الاختيار. ففي المسيحية يتلازم الإيمان مع حرية الضمير والاختيار الشخصي، وإنْ انتُهكت هذه، ما عاد هذا الإيمان كما أراده المسيح. المسيحي لا يقدر أنْ يقف ضد حقوق الإنسان الأساسية المُصانة في إنجيله وفي المواثيق الدولية.
الزواج المدني والانحلال الأخلاقي
أما الادّعاء بأنّ الزواج المدني يُشجّع على الانحلال الأخلاقي، ويؤول لضرب العائلة والكنيسة، ولتشريع الشذوذ الجنسي، فهو جهل للاهوت وللقانون وللتاريخ ولعلوم الأخلاق والاجتماع والأنثروبولوجيا، وهو تعامٍ عن وجود هذه الخطايا والضعفات في أكثر البيئات الدينية تشدّداً.
أنا لا أخاف في حال إقرار قانون الزواج المدني الاختياري على رسالة المسيح، ولا على دينه، فالكنائس ستكون أكثر نقاءً، ومجتمعها سيكون أكثر استقراراً، لكن أخاف أنّه في حال الاستمرار برفض قانون الزواج المدني سيزداد ابتعاد الناس عن الكنائس، وسيتحوّلون إلى رفض الإيمان بالمسيح والإلحاد والانضمام إلى ديانات أخرى، والهجرة طلباً للحرية وللكرامة الشخصية الملاصقة لها. أنا مؤمن بأنّ الزواج المسيحي هو خيار المؤمنين والمؤمنات الثابت، وأنّه لا داعي لإذلال من لا يُريد هذا الخيار، فهذا لن يأتي به للمسيحية بل يُبعده عنها.