Site icon IMLebanon

“نادي قضاة لبنان”… أم بعض قضاته؟

كتب محمد نزال في “الاخبار”:

أصبح للقضاة في لبنان ناديهم. هذا يُزعج مجلس القضاء الأعلى، الذي، وبالتنسيق مع الحكومة، سعى لعدم توقيع «العلم والخبر». أصبح هذا مِن الماضي، إذ وُلِد النادي، رسميّاً… وولِدت معه مؤاخذات وأسئلة. قضاة لبنان يُشبهون كلّ شيء في هذه البلاد. هل أُجمِع على شيء، في تاريخ لبنان، حتّى يُجمع القضاة على ناديهم؟

في الساعات الأخيرة له وزيراً للداخليّة، نهاية الشهر الفائت، قرّر نهاد المشنوق أن يوقّع على «العلم والخبر» لجمعية باسم «نادي قضاة لبنان». ذاك النادي الذي بتنا نسمع عنه كثيراً في الآونة الأخيرة. ظلّ الطلب في دُرج الوزير مُعلّقاً، بين التوقيع والردّ، لأكثر مِن 9 أشهر. لعلّ المشنوق أدرك، في اللحظة الأخيرة، أو كان يُدرك مِن قبل ولكنّه أراد المناورة، أنّ ذاك النادي اللبناني أصبح واقعاً، وأن نوادي القضاة ظاهرة عالميّة متقدّمة، والمستقبل لها، لذا أبى أن يُغادر الوزارة مِن غير أن يربط اسمه بالأوراق التأسيسيّة للنادي. هذه قرارات تذهب للتاريخ. لم يترك القرار لمن سيأتي بعده، أن «يقطفها». هكذا، أصبح لقضاة لبنان (أو لمَن يودّ مِنهم) ناديهم. ما حكاية هذا النادي؟

حسناً فعل مؤسسو النادي، مِن القضاة، أن أطلقوا على قاعة اجتماعاتهم اسم القاضية الراحلة ماري دنيز المعوشي. كانت الأخيرة مِن أكثر المشجعين على تأسيس النادي. كان بمثابة أمنية لها. رحلت المعوشي منتصف العام الماضي، عندما كان «العلم والخبر» ينتظر توقيع وزير الداخليّة. وفي بيان نعيها، الصادر عن النادي، عاهدها القضاة الأعضاء بالسير على خطاها و«متابعة النضال لتحقيق حلمها: استقلال القضاء ومنعته».

كان الأعضاء المؤسسون للنادي، في نيسان الماضي، تقدّموا بطلب «العلم والخبر»، لكنّ مواقف أكثر مِن جهة، سرّاً وعلناً، جعلت وزير الداخليّة يتريّث. بالمناسبة، مؤسسو النادي لم يكونوا ينتظرون التوقيع ليباشروا نشاطهم، في لبنان والخارج، بما في ذلك إصدار البيانات تعليقاً على أكثر مِن قضيّة رأي عام، إذ بالنسبة إليهم هم أعطوا علماً وخبراً بشأنهم، وبالتالي على مَن يهمه الأمر الأخذ بذلك. لم يكن المشنوق ضدّ الفكرة، مِن حيث المبدأ، ولا مشكلة شخصيّة له مع القضاة إيّاهم، ولكن ما حصل هو أنّ مجلس القضاء الأعلى، وبالتكافل والتضامن مع وزير العدل السابق سليم جريصاتي، طلبا مِن المشنوق أن «يُنيّم» الأوراق في درجه. المجلس يرى أنّ النادي يأخذ مِن صلاحياته، وأشياء أخرى، أمّا جريصاتي، وليس سرّاً، فلم يكن مِن المتحمّسين لاستقلاليّة القضاة (لا القضاء) أصلاً. كان دخل على هذه الخلفيّة في سجالات حادّة مع مجلس القضاء الأعلى، لناحية استقلاليّة القضاة في انتخاب أنفسهم، فإذا به أمام شيء جديد اسمه نادي القضاة. ما هذا؟ تلك كانت فرصة لالتقاء الخصمين، مجلس القضاء والوزير، ضدّ النادي. جمعتهما الخصومة.

ما هو نادي قضاة لبنان هذا؟ مَن يُتابع شؤون السُلطات القضائيّة دوليّاً، فإنّه حتماً سمع عن نوادي للقضاة في كثير مِن دول العالم. في مصر، مثلاً، نادي القضاة كيان يصعب القفز فوقه. إنّه أشبه بـ«لوبي» يوحّد القضاة. في مصر، تحديداً، يتسع دور النادي إلى حدود كونه دائرة حياة اجتماعيّة متكاملة للقضاة وعائلاتهم. شيء أعمق مِن نقابة، وما هو بنقابة. لطالما اضطر «الحاكم» هناك أن يتحسّب لهم. أمّا في لبنان، وبحسب بيان «العلم والخبر» المنشور، فيصل عدد أهداف النادي إلى عشرة، أبرزها: «المساهمة في تحقيق استقلاليّة السُلطة القضائيّة، وترجمة هذه الاستقلاليّة عمليّاً مِن الناحيتين الماديّة والمعنويّة».

معنويّاً، باتت المسألة واضحة، أمّا ماديّاً فتُرجم ذلك، بحسب البيانات، في الحرص على عدم المسّ بصندوق تعاضد القضاة مثلاً. هم يُريدون الذهاب أبعد مِن ذلك. المُهم، يضع النادي مِن بين أهدافه أيضاً: «العمل على تعزيز كرامة القضاة والدفاع عنها، مع تغليب روح المساءلة والشفافيّة، بحيث يكون له الحقّ في الادّعاء والتدخّل في دعاوى الجرائم الواقعة على القضاء والقضاة من أعمال شدّة وتحقير وذم وقدح». في لبنان، يتعرّض كثير مِن السياسيين لقضاة، صدقاً أو افتراء، ولا يكون بوسع القاضي أن يدافع عن نفسه بنفسه لكون «أدبيات القضاة» تحظر عليه الردّ في الإعلام. أحياناً يمكن أن يُعاقبه «التفتيش» إن فعل. هذا ما يُسمى قانوناً بـ«موجب التحفّظ». بالمناسبة، نادي قضاة لبنان، هذا الكيان المعنوي الجديد، يبدو أنّه لا يكره شيئاً بقدر كره لذاك «الموجب». إنّهم يُريدون أن يتكلموا. كان هذا أحد أسباب تصادم النادي مع مجلس القضاء الأعلى. المجلس الذي ذكّر مؤسسي النادي بذاك الموجب، وأنّه يشملهم مع سائر «موظّفي الدولة»… في حين أنّه كان، أي المجلس، في مرحلة سابقة يرفض أن تعامل الحكومة القضاة كموظفين! بدا المجلس مصاباً بانفصام. ثمّة هدف لافت للنادي، يحمل الرقم عشرة، وهو: «تعزيز ثقافة المساءلة في المجتمع وتكريس دولة القانون، وتقديم الإخبارات بخصوص جرائم الفساد والإثراء غير المشروع». هكذا، نادي القضاة «داخل بقوة» أيضاً في موجة مكافحة الفساد. هنا يُسجّل للنادي أنّه، وفي مناسبة لاحقة، أعلن، في بيان أذاعته رئيسته القاضية أماني سلامة، طلب «رفع السريّة المصرفيّة عن حسابات القضاة وعائلاتهم». هذه إشارة طيبة، شجاعة وغير مألوفة.

وزير العدل الجديد، ألبرت سرحان، يبدو أكثر تفهماً لفكرة نادي القضاة مِن سلفه، يقول لـ«الأخبار» إنّه يتفهّم مبرّر إنشاء مثل هذا النادي، خاصّة «بعد الظروف القاسية التي مرّت وولدت نقمة عند القضاة… لكن يقال اليوم إنّ الذين أسسوا النادي استنسخوا بعض صلاحيات مجلس القضاء الأعلى، وأنا أخاف أن يؤدّي الأمر إلى تشرذم بين القضاة». سرحان قاضٍ سابق ويعرف تلك الأجواء جيّداً. وعلى سيرة التشرذم، يُشار إلى أن 32 قاضياً هم مَن بادروا إلى التأسيس، واليوم يضم النادي نحو 80 قاضياً مِن أصل أكثر مِن 500، بحسب ما تذكر رئيسة النادي في حديث مع «الأخبار». سلامة تلفت إلى أن الرقم مشجع، علماً «أننا لا نقول ما يعيب القضاة الذين لم ينتسبوا، الانتساب حرّ، لهم كل الاحترام طبعاً».

لكن أليس لافتاً أن العدد الأكبر لم ينتسب بعد إلى ما يتوقّع أن يجلب لهم منفعة؟ لا يريد القائمون على النادي أن يخوضوا في هذه المسألة، ولكن مِن الواضح أن الجواب هو في طبيعة تكوين النظام القضائي في لبنان، الذي يشبه كلّ شيء آخر في البلاد، لناحية أن القضاة آتون مِن مشارب سياسيّة مختلفة. هي سمة الانقسام. مسألة أخرى يثيرها بعض القضاة، ممن لم ينتسبوا إلى النادي، إذ يُشيرون إلى أن بعض المؤسسين يقدّمون أنفسهم على أنهم «ثوار» مِن أجل استقلالية القضاء عن السياسة، فيما الجميع يعرف الجهات السياسية التي يُحسبون عليها، وهناك «أسماء معروفة». اللافت أيضاً خلو النادي، إلى الآن، مِن أسماء بعض القضاة الذين عُرِف عنهم عدم تحزّبهم، بل اشتهروا بنفسهم الثوري داخل الجسم القضائي. على النادي أن يسأل نفسه عن أسباب عدم كونه جاذباً لهؤلاء. أحد القضاة يتحدث عن عدد وازن مِن القضاة المؤسسين الذين «نالوا مراكز جيّدة في التشكيلات القضائية الأخيرة، التي أقرّتها في النهاية الحكومة، ومن لا تكون الحكومة راضية عنه لا يصل إلى مراكز مهمة، أليس كذلك؟». عموماً، لا يوجد بين القضاة، الذين انتسبوا والذين لم ينتسبوا، مَن لا يدعم فكرة النادي عموماً، ولكن الخلاف قائم حول التطبيقات وحول «سلوك» المؤسسين. قاض عتيق، مِن غير المحزّبين، يقول معلّقاً: «صدّقني، دائماً نتحدّث عن استقلالية القضاء عن السياسة، وهذا مطلب بديهي، ولكن في واقعنا نحتاج أيضاً إلى استقلالية القضاء عن ذهنيّة تسلّط بعض القضاة على القضاة. أنا لم أنل الأذى إلا مِن القضاة أنفسهم».