كتبت رلى موفّق في صحيفة “اللواء”:
يعتبر «حزب الله» أنه برفعه لواء مكافحة الفساد، كبند أول على جدول أعماله اللبناني، قد اختار المعركة الأكثر تحدياً، ولكن أيضاً الأكثر جذباً للبنانيين الذين يريدون «منقذاً» نتيجة الحال التي وصل إليها لبنان حكماً وإدارة ومؤسسات، والذي يفصله خيط رفيع عن التحوّل إلى دولة فاشلة. ويأتي هذا الخيار بعدما أضحى «الحزب» جزءاً رئيسياً من تركيبة النظام.
ويظن أنه قادر على لعب دور «هذا المنقذ»، بمراكمته على انتصارات عسكرية حققها ضد إسرائيل وضد الإرهاب، وانتصارات سياسية تجلّت بإيصال رئيس للجمهورية وبفرض قانون انتخابات نيابية حصد وحلفاؤه على أساسه أكثرية برلمانية، ترجمها في حكومة يمسك بثلثها المعطل، يرميه عند الضرورة في وجه الجميع، وبحقيبة الصحة مفتاح العبور إلى البيئات المقفلة عليه، ورسالة مواجهة مع المجتمع الدولي إذا اصطف خلف واشنطن.
ووفق لصيقين بـ«الحزب»، فإن إعلان أمينه العام السيد حسن نصر الله توليه هذا الملف شخصياً، يعني أنه في ذروة تحدٍ جديد، ويضع رصيده الشخصي والمعنوي على المحك أمام جمهوره ومناصريه وحلفائه وأمام خصومه في آن، الأمر الذي يدل على جدية القرار وقوة الدفع التي يتكىء عليها، ذلك أنه تمّ فرز طواقم بشرية تقنية ضخمة خدمة لهذه المسألة، وسط تحضير الآلة الإعلامية المطلوبة في مثل هذه المعارك.
و«نوستالجيا» المتابعين لـ «مطبخ تحضير ولائم مكافحة الفساد» تذهب بهم إلى اعتبار أن المعركة التي يخوضها «حزب الله» تندرج في سياق معركة إنقاذ لبنان أو معركة هزيمة الفساد المعشعش في ثنايا النظام منذ نشأته التاريخية. لكن ما يفوت هؤلاء، ومعهم «الحزب»، أن ثمة مسلمات لا بد من أن تتوافر في معركة مكافحة الفساد. أولها، وجود دولة تحكم بقواها الأمنية الشرعية وتبسط سلطتها على كامل أراضيها، وهو منطق يتناقض مع واقع حال الدويلة التي يُشكّلها «الحزب» في قلب الدولة، والتي أفضت إلى انحلال السلطة وغياب القانون نتيجة عدم تطبيقه بالسواسية على الجميع، بحيث باتت معادلة «الصيف والشتاء تحت سقف واحد» هي الحاكمة، وجعلت اللبنانيين أسياداً وعبيداً، بين من يملك السلاح وفائض القوة وبين مَن هُم عزل ومكشوفين من دون حماية.
وثاني هذه المسلمات، أن يكون من يرفع لواء مكافحة الفساد يتمتع بصدقية وثقة وتاريخ يسمح له أن يقود تلك المعركة. ولا يخال كثير من المراقبين أن «حزب الله» تنطبق عليه هذه المواصفات، ذلك أن تصنيف لبنان دولة مارقة يعود في جانب كبير منه إلى ممارسات «الحزب»، وإمساكه بكثير من مفاصل الدولة الحساسة، ولا سيما مرافقه ومرافئه.
فحتى اللحظة لا يزال التحدي أمام الوزارات المعنية بالمرافق العامة، هو في كيفية إقناع العالم بأن المنفذ الجوي الوحيد للبنان، والمتمثل بمطار رفيق الحريري الدولي، لا يخضع لسيطرة «الحزب» عبر اختراقه المباشر للمؤسسات الأمنية الموكلة به، أو عبر توظيفاته المدروسة فيه، ناهيك عن أنه لا تزال هناك أرصفة في المرافئ البحرية خارجة عن سيطرة الدولة ومصدر إدخال البضائع المهربة من الجمارك التي تحرم خزينة الدولة من أموال طائلة، ولا تزال الحدود البرية مفتوحة لتهريب البضائع التي تصل إلى مرفأ طرطوس ومنها تعبر الأراضي اللبنانية من دون حسيب أو رقيب إلا حين يُراد لها أن تُضبط!. واقع مأسوي أدى بكثير من الشركات إلى الوقوع بخسائر أو إلى الدخول في منظومة الفساد عبر سلوك درب البضائع المهربة من الضرائب الجمركية كي تستطيع الصمود.
واللائحة تطول في استشراء الفوضى الاجتماعية في مناطق نفوذه، وفي غياب قدرة الدولة على ممارسة مهامها، وفي تأمينه غطاء لمتنفذين صغار وكبار يقدمون على أعمال غير شرعية، والعالم يضج من عجز الدولة عن القضاء على آفة مصانع المخدرات وتصديرها إلى الخارج.
صحيح أن الفساد له مستويات عدة، لكن كله فساد، سواء أكان فساداً مقونناً، أم ذلك القائم على استخدام النفوذ أو المتعلق بالسرقات المباشرة في الدولة أو تلك التي تأخذ مظلة الخوّات والتشبيح أو منع الجباية أو التهرب الضريبي أو مصادرة المشاعات أو غيرها من الأعمال الخارجة عن سيادة القانون. لكن «حزب الله»، وما يُمثّله من «الشيعية السياسية» وبيئتها، لا يمكنه في هذا الإطار أن يضع نفسه في مصاف مختلفة عن الآخرين إذا أراد توصيفهم بالفاسدين، مميزاً نفسه بـ «المعصوم» عن تلك التهمة.
فسلوك درب مكافحة الفساد عنوانه واحد، وهو إعلاء شأن الدولة على الدويلة، وما يتطلب ذلك من إعادة بناء مؤسساتها الإدارية على أسس سليمة مرتكزها الكفاءة وليس الولاءات الحزبية والمحسوبيات، وإعادة استعادة هيبة الدولة بمؤسساتها الأمنية والعسكرية والقضائية، وممارسة الحكم الرشيد، والخروج من عقلية الزبائنية، وهي مهمة تحتاج إلى قرار كبير من مختلف القوى الحاكمة وإلى انخراطها الفعلي فيها، وفي مقدمها «حزب الله» ليس من موقع حامل شعلة مكافحة الفساد لدى الآخرين بل من موقع قرار العودة إلى أن يكون حزباً لبنانياً بأجندة لبنانية منخرطاً في الدولة اللبنانية يتقيد بالقوانين والأنظمة.
هي ساعة لم تحن بعد. وحتى إذا كان من حسن نية لدى «الحزب» في خوض غمار هذا التحدي، فإن المدخل الذي سلكه نصر الله بالهجوم المعلن والمبطن على رئيس الحكومة فؤاد السنيورة ما بين 2005- 2009 من باب رفضه العرض الإيراني لحل أزمة الكهرباء إلى إعادة طرح موضوع الـ11 مليار دولار الذي قال «إن أحداً من اللبنانيين لا يعرف كيف أنفقت»، وما تلاها من عراضات إعلامية لمسؤول الملف النائب حسن فضل الله، يشي بأمر من اثنين: إما أن «حزب الله» لا يمتلك من الخبرة والحكنة والدهاء ما يكفي في مقاربته ملف حساس وشائك مثل ملف مكافحة الفساد – وهذا أمر مستبعد – وإما أن لديه «حسابات ما» من وراء استهداف السنيورة.
قد يكون من المبكر الجزم بالأهداف التي يريد «حزب الله» تحقيقها في معركة الاستهداف المباشر لشخصية لعبت دوراً صلباً في توليها مسؤولية الحكومة التي صمدت في وجه الضغوط والتي على يديها وُلدت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والتي بات حكمها في جريمة اغتيال رفيق الحريري قاب قوسين أو أدنى.
التساؤلات في شأن مرامي استهداف السنيورة من بوابة الـ11 ملياراً تحت عنوان «مكافحة الفساد» عديدة، ولا بد من أن تكشف الأيام المقبلة الأهداف الكامنة لدى «حزب الله»، لكن ما يبدو أكثر منطقياً حتى الآن، أن «الحزب» يريد أن ينقل العدسة من مكان إلى آخر.
ما ينتظر «الحزب» من استحقاقات هي كثيرة، تبدأ من قرار المحكمة الدولية في شأن المتهمين من عناصره بارتكاب جريمة اغتيال الحريري وتمر بما تتطلبه مشاريع «سيدر» من شروط سياسية وإدارية وأمنية وعسكرية تصيبه في الدرجة الأولى، وتصل إلى حجم الضائقة المالية في الحزب الذي يتولى نصر الله شخصياً التصدي له مع كوادره وبيئته، وكان آخرها في لقاء الهيئات النسائية حيث استعان السيّد برمزية فاطمة الزهراء ومسيرة صبرها داعياً إلى التشبّه بها، ولا تنتهي عند باب الحصار الدولي عليه والذي انضمت بريطانيا إليه مع تصنيفه بالتنظيم الإرهابي من دون تمييز بين جناح عسكري وجناح سياسي. استحقاقات ربما يفهم معها دلالات الهجوم الاستباقي الذي يقوده «الحزب» والذي لا بد من أن يترك تداعيات له على المشهد الداخلي وربما على التسوية برمتها إذا خرجت الأمور عن السيطرة!.