لا يزال موضوع الزواج المدني يتفاعل مذ أعادت طرحه وزيرة الداخلية والبلديات ريا الحسن، وقد لا يختلف اثنان على أنها خطوة جيدة من وزيرة عيّنها تيار سياسي تابع إلى طائفة ترفض الأمر رفضًا مطلقًا، بغض النظر عن الخطوات التالية التي يجب أن تعتمدها الوزيرة إن كانت صادقة في طرحها، وأهمها تحرير الزيجات المرمية في أدراج الوزارة.
قد يرى كثيرون أن الحديث عن الزواج المدني من الكماليات اليوم، مع كل المشاكل الأساسية التي نعاني منها. لكن المعيار يجب أن يكون الإنسان أولًا، ولذلك الحديث عن الزواج المدني بأهمية الحديث عن تأمين الدواء المجاني، حتى لو أن في الأمر مبالغة، لأن واجب الدولة الحفاظ على حق مواطنها في أن يعيش حياته كما يريد، طالما أنه لا يؤذي أحدًا. فهل من المعقول القول لثنائي يريد أن يتزوج مدنيًا إن عليه انتظار حل مشكلة الكهرباء، مثلًا، لنتفرّغ بعدها إلى حل مشكلته “الثانوية”؟ وإذا لم تحلّ هذه المشكلة إلا بعد 20 عامًا (وهي ليست وحيدة طبعًا)، فهل نضيع عليه حقه في حياة كاملة كان يريدها؟
هذا في الشق الأول. أما في الشق الثاني المتعلق برجال الدين، فأصبح من المبتذل حقًا اعتمادهم معيارًا في تحديد ما هو صائب مما هو خاطئ. وهنا من الواجب الإشارة إلى ما يقوم به الإعلام (مرآة المجتمع) في مقاربته أي قضية اجتماعية، فيهرع إلى الاستعانة برجلي دين من طائفتين مختلفتين ويضعهما في مواجهة بعضهما، فتضيع القضية بين شخصين يريدان إثبات ما تقوله ديانتهما، بلا جدوى.
وفي بلد من غير ذي لون ديني واحد، تصبح مواجهة سلطة رجال الدين صعبة، لاختلاف النظرتين اختلافًا جذريًا، إلا أن الوضع يختلف في موضوع الزواج المدني: كلا الطرفين لا يريدان زواجًا مدنيًا، وإن أردنا التسليم بأنهما لا يريدانه نصرةً للدين فقط، وليس حفاظًا على سلطتهما، فهذا ليس معيارًا بدوره. إذ إن لا دولة متقدمة في العالم كله تقوم على ما يقوله الدين، لأن دوره البديهي ليس تنظيم العلاقات المدنية بين الأفراد ودولتهم، بل دوره يقتصر على تنظيم علاقة الشخص بخالقه، كما بعلاقاته الشخصية التي هو حر بها.
وعلى هذه السلطة الدينية المطلقة، يقوم لبنان كله. أحزاب سياسية-طائفية، يحكمها زعماء طوائف، وبدورها تتحكم برقاب الشعب. وكل حديث عن “إصلاح” داخل هذا النظام لا يبدأ إلا بكف أيدي رجال الدين عن السياسة، وهذا احترام للدين قبل أن يكون احترامًا للسياسة. فمن قدسية الدين أن يبقى بعيدًا عن زواريب السياسة الفاسدة والمفسدة، وأن يبقى شأنًا خاصًا يخص الفرد فقط. واحترام قدسية الدين يحتّم على معتنقيه إبقاءه بعيدًا عن فساد السلطة.
وقد يكون مثاليًا الحديث عن جعل الزواج المدني إلزاميًا في بلد طائفي في جذوره، مع أهمية العمل على قوانين موحّدة للأحوال الشخصية لوقف خضوع المرأة (خاصةً) لاستنسابية المحاكم الروحية، لكن الزواج المدني الاختياري حق بديهي فعلًا. ومن يريد أن يمنع غيره بالإكراه عن فعل أمر لا يؤمن به لا يفيد قضيته، إن وجدت، بشيء، بل يزيد الأخير إصرارًا لتحقيق طموحه.
في الخلاصة، وطنٌ لا يحترم جميع أبنائه وطنٌ لا يعوّل عليه للنهوض، ومن المستحيل الحديث فيه عن بناء دولة حقيقية.