كتب زكريا أبو سليسل في “الاخبار”:
لم يكن قرار محمد جواد ظريف العودة إلى وزارة الخارجية مفاجئاً بالقدر الذي جاء به قرار الاستقالة من الوزارة، لأن كل المؤشرات في العاصمة الإيرانية طهران كانت تفيد بأن منظومة صنع القرار في البلاد لا ترى أن الوزير يُشكل لها معضلة من خلال إدارته لدفة السياسة الخارجية الإيرانية. لكن الاستقالة ــ المفاجأة فتحت الباب على سؤال: من هو الطبّاخ الحقيقي للسياسة الخارجية في الجمهورية الإسلامية؟
لم تكد تمضي ساعات قليلة على قرار الاستقالة الذي خطّه وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، حتى تبيّن أن عدم دعوته إلى حضور اللقاء الذي جمع الرئيس الإيراني حسن روحاني، بنظيره السوري بشار الأسد، لم يكن هو السبب الجوهري الكامن وراء اتخاذه هذا القرار، وأن ما حدث خلال زيارة الرئيس السوري لطهران كان بالنسبة إلى ظريف قمة «جبل جليد» استغلها من أجل التعبير عن ركام من الخلافات الدائرة بينه وبين عدد من الأشخاص والمؤسسات في إيران، حول صلاحيات وزارته ودور في ما يتعلق بسياسات البلاد الخارجية.
وقد تأكدت هذه الرؤية بعد ساعات قليلة من الاستقالة، عندما كثر الحديث عن مكانة وزارة الخارجية في تركيبة السياسات الخارجية لإيران. وكان من اللافت في هذا السياق خروج قائد «قوة القدس» في الحرس الثوري، اللواء قاسم سليماني، قبل عدول ظريف عن الاستقالة بأقل من ساعة، ليؤكد عبر حسابه في تطبيق «إنستغرام» أن ظريف هو المسؤول عن السياسة الخارجية لإيران، وأن كل المسؤولين الكبار في البلاد يدعمونه في هذا المجال. وعلى رغم عودة ظريف إلى منصبه في الخارجية محمّلاً برسالة دعم رسمية وشعبية، فإنه بحسب الباحث السياسي الإيراني حسين ريوران «لم يحصل على ضمانات تحفظ له مكانة أكبر في عملية صنع السياسة الخارجية الإيرانية»، إذ يلفت ريوران إلى أن «البنية السياسية الإيرانية لم تتغير حتى يحصل ظريف على هذا الأمر؛ فلا القانون الإيراني تغيّر ولا مراكز القرار في البلاد تغيرت».
من جانبه، يرى الكاتب الإيراني حسن هاني زاده أن الدعم الذي ناله ظريف لم يكن إلا في صفوف تيار الإصلاحيين الذي لطالما سعى الوزير إلى زيادة مكانته وقيمته داخل أروقته. ويشير هاني زاده إلى أن تيار المحافظين في البلاد لن يغفر لظريف هذه الاستقالة، وسيضع له الشِبَاك حينما تأتي الساعة والوقت المناسبان». ويُرجع الكاتب الإيراني موقف المحافظين إلى أن «أوساط التيار رأت في استقالة ظريف ضربة للقاء قائد الثورة بالرئيس السوري بشار الأسد، والذي مثّل بالنسبة إليهم عرس انتصار تاريخي لمحور المقاومة».
السياسة الخارجية في الدستور
رسائل استقالة ظريف التي قُرئت في الداخل الإيراني بعيون مختلفة، لم تغنِ عن فتح نقاش واسع حول سياسة إيران الخارجية. من يرسمها؟ وما هي العناصر والمؤسسات التي تؤثر فيها بصورة أكبر من الأخرى؟ بالعودة إلى الدستور الإيراني، نجد أنه تضمن فصلاً خاصاً بالسياسة الخارجية الإيرانية ظهرت في مادته الأولى مجموعة الأسس والمرتكزات التي تقوم عليها تلك السياسة، تلخّصت في «الامتناع عن أي نوع من أنواع التسلط أو الخضوع له، والمحافظة على الاستقلال الكامل، ووحدة أراضي البلاد، والدفاع عن حقوق جميع المسلمين، وعدم الانحياز مقابل القوى المتسلطة، وتبادل العلاقات السلمية مع الدول غير المحاربة». واشتمل هذا الفصل في بنوده الأخرى على قائمة من الممنوعات، جاء أهمها في المادة الثانية التي نصت على «منع عقد أي معاهدة تؤدي إلى السيطرة الأجنبية على الثروات الطبيعية، والاقتصادية، والثقافية، والجيش، والشؤون الأخرى للبلاد». ولم تُغفل بنود هذا الفصل شرعنة الدور الخارجي الإيراني من دون أن تحصره بآلية محددة ولا بمكان معين، وتبدّى ذلك في إشارة إحدى مواد فصل السياسة الخارجية إلى أن «الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أي نقطة من العالم»، لكن هذا الدعم بقي، بحسب ما ورد في المادة، محكوماً بـ«عدم التدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى».
المجلس الأعلى للأمن القومي
رغم تلك التفصيلات التي أوضحها الفصل في ما يتعلق بسياسة إيران الخارجية، فإنه لم يُسنِد في طياته مسؤولية تلك السياسة إلى جهة معينة في البلاد. كما أن الدستور في فصل آخر جعل أي وزير خارجية إيراني عضواً في المجلس الأعلى للأمن القومي، الذي أنشئ بناءً على التعديل الدستوري الذي حدث عام 1989 (قبل وفاة الامام الخميني)، والذي تتمحور مهمته بحسب الدستور حول «تعيين السياسات الدفاعية والأمنية للبلاد تحت إطار السياسات العامة الإيرانية التي يحددها مرشد الثورة»، بالإضافة إلى أنه «ينسق بين النشاطات السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية ذات العلاقة بالخطط الدفاعية ــ الأمنية».
وبالنظر إلى تركيبة المجلس التي أقرّها الدستور، نرى أن كل مدخلات معادلة صنع القرار الإيراني توجد في هذا المجلس إلى جانب وزارة الخارجية. فالمجلس، وفق نصوص الدستور، يضم تحت عباءته كلاً من رؤساء السلطات الثلاث (التنفيذية، القضائية، التشريعية)، ورئيس الأركان، ومسؤول التخطيط والميزانية، ومندوبَين اثنين يعيّنهما المرشد، ووزراء الخارجية والداخلية والأمن، وأعلى مسؤولين في الجيش والحرس الثوري، بالإضافة إلى الوزير ذي العلاقة بالموضوع الذي يناقشه المجلس. هذه التركيبة التي يتشكل منها المجلس جعلت حسين ريوران يصف مؤسسة الأمن القومي بأنها «المركز الأساسي لصناعة القرار الإيراني»، واستند في هذا الوصف إلى «ميزة وجود مؤسسات إيران المدنية والعسكرية كافة في هذا المجلس». ورغم أن ريوران أكد خلال حديثه في هذا الجانب أن «وزارة الخارجية قد تقترح الكثير من الأمور التي يأخذ بها مجلس الأمن القومي»، فإنه جزم بأن «القرار الإيراني لا يمكن أن يُحصر في وزارة الخارجية، ولا يمكن لهذه الأخيرة أن تحلّ محلّ مجلس الأمن القومي»، بل ستبقى برأيه «أحد صناع القرار في المجلس». القدرة على المشاركة في صناعة القرار داخل المجلس يربطها حسن هاني زاده بـ«كاريزما الوزير الذي يتولى حقيبة الخارجية، والذي يُعطي من خلالها القيمة الحقيقية لوزارته».
كيف يخرج القرار؟
الدستور الإيراني، من جهته، لم يوضح الآلية التي يُتخذ فيها القرار داخل المجلس، لكنه رهن تنفيذ مقررات المجلس بمصادقة المرشد عليها، لأن مسؤولية المرشد وفقاً لرئيس تحرير النسخة العربية في وكالة «مهر»، محمد مظهري، تقوم على «حفظ الأسس الاستراتيجية والثورية في السياسات الداخلية والخارجية لإيران». ويوضح مظهري أن «مواقف قائد الثورة تعتبر في إيران بمثابة كلمة الفصل في الاستراتيجيات والخطوط العريضة». ويشير في هذا السياق إلى وزارة الخارجية، معتقداً أنها «المسؤولة عن تنفيذ تلك السياسات المرسومة من قبل المرشد»، مبيّناً أن «تلك الاستراتيجيات التي تُرسم من قبل المرشد في إطار الدستور لا تتبدل بكون وزير الخارجية من الطرف المحافظ أو الإصلاحي»، وأن ما يتغير برأيه هو «تكتيكات أسلوب التعاطي مع القضايا التي تهم إيران على الصعيد الخارجي». وانطلاقاً من كون الوجود العسكري والميداني هو عماد النشاط الإيراني في بعض الساحات الخارجية، فإن الرؤية الأمنية والعسكرية التي توضع على طاولة المجلس الأعلى للأمن القومي، من خلال عضوية القادة الأمنيين والعسكريين (قائد الحرس الثوري، وقائد الجيش، ووزير «اطلاعات» أو الأمن)، ستؤثر بصورة أو بأخرى على عملية إقرار السياسة الخارجية داخل المجلس.
وفي هذا المجال، يعتبر محمد مظهري أن «إيران تسعى لتطبيق سياساتها من خلال مزاوجة رؤية ثورية ورؤية دولتية». ويضيف شارحاً أن «الوجهة الأولى للسياسة الخارجية الإيرانية تقوم على الرؤية الثورية للجمهورية الإسلامية وقائد الثورة، وينشط فيها فيلق القدس بقيادة الجنرال قاسم سليماني، وهذه الرؤية تسعى من خلالها إيران لتحقيق الأهداف الثورية المتمثلة في مقاومة الهيمنة الغربية، ما يجعلها في بعض الأحيان تتجاوز الحدود الدبلوماسية التي يقوم عليها الوجه الثاني للسياسة الخارجية التي تضع الأهداف الوطنية الإيرانية على سلم أولوياتها وتسعى لتطبيقها من خلال الأروقة الدولية».
مسارات السياسة الخارجية الإيرانية المنبثقة من الرؤيتين المشار إليهما تُصنّف من قبل البعض على أنها جزء من لعبة «تبادل الأدوار»، التي تتعمد فيها طهران إظهار «وجهها الحاسم» من خلال الحضور العلني للجنرال قاسم سليماني في الساحات الإقليمية المختلفة. بالتوازي مع ذلك، تحرص على إبراز «وجهها المبتسم» من خلال تصدّر وزير الخارجية محمد جواد ظريف للمحافل الدولية والإقليمية كافة ذات العلاقة بإيران. هذه القراءة لحضور ظريف المتوازي مع حضور سليماني لم يوافق عليها حسين ريوران، بل اعتبر أن «إيران تمارس في هذا المجال تكاملاً بين ما هو سياسي وما هو أمني، حالها كحال أغلب دول العالم». وفي ما يخص تلك الرؤية، يعلّق حسن هاني زاده موضحاً أن «الجنرال قاسم سليماني هو وزير الظل لأربع وزارات، هي: الأمن والخارجية والدفاع والداخلية». ومن جهة أخرى، فإن هاني زاده يقرأ في ابتسامة الوزير ظريف الدائمة «جانباً مخملياً لإيران»، إلا أنه رغم ذلك يعتقد أن «الرجلين يركبان السفينة نفسها، ولا يوجد بينهما أي خلاف».