لم تخرج الحكومة الى النور نتيجة التوصل الى حل عقد التشكيل التقليدية، وإنما نتيجة تفاهمات خارجية دولية إقليمية فرضت أمرا واقعا على الفرقاء اللبنانيين ولعبت فيها باريس دورا رئيسيا كونها الطرف الخارجي المعني أولا بمسار ومصير «حكومة سيدر».
ومنذ اليوم الأول أحيطت الحكومة الجديدة برعاية إقليمية ودولية ودعم خارجي مباشر تمثل بالزيارات المتتالية لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، والموفد الملكي السعودي نزار العلولا، ومن ثم الموفد الفرنسي الخاص بيار دوكان، وهذه الزيارات جاءت مرفقة بإشارات مشجعة مثل الاستعداد الإيراني لمساعدة لبنان في أي مجال يريده، والقرار السعودي برفع الحظر عن سفر السعوديين الى لبنان، والتوجه الفرنسي الى حصر تداعيات القرار البريطاني بشأن حزب الله في اضيق نطاق ممكن.
ولم تكن «الإحاطة الخارجية» للحكومة العامل الوحيد الذي يبعث على التفاؤل، فما حدث في الداخل من «يقظة عامة» وما صدر من مواقف وإشارات دلت كلها على إدراك لدقة المرحلة وثقل الأزمة الاقتصادية والمالية وضرورة التحرك السريع وتحمل الجميع لمسؤولياتهم، وحرص على استقرار الحكومة وتماسكها وإنتاجيتها.
هناك أولا التسوية الرئاسية التي صمدت وترسخت مع رسوخ ثلاثي الحكم الجديد: «عون ـ الحريري ـ حزب الله»، وهناك ثانيا الفصل الذي أقيم بين السياسة والاقتصاد الى درجة أن أي نقاش جدي لم يجر عند وضع البيان الوزاري وبعده في مسائل أساسية سياسية، مثل العلاقات مع سورية أو سلاح المقاومة أو المحكمة الدولية، وهناك ثالثا الشعور العميق لدى كل القوى والأحزاب بصعوبة الأوضاع الاقتصادية والمالية وحجم الأعباء والمشاكل التي باتت تتقدم على أي مسائل وهواجس أخرى سياسية أو أمنية.
وفي حين يشتد الهاجس المالي، فإن الهاجس الأمني يتراخى الى درجة بدأت عملية إزالة المكعبات الإسمنتية من الشوارع ومن أمام المقرات الرسمية.
ولكن في ظل هذه الرعاية الخارجية وقوة التفاهمات السياسية الداخلية، جاءت انطلاقة الحكومة ضعيفة مرتبكة وغير موفقة، والى حد ما «محبطة»:
1 ـ السجال الحكومي المبكر حول موضوع النازحين السوريين.
وهذا يشكل خرقا لمبدأ تقديم الموضوع الاقتصادي على ما عداه ويعكس تباينا في شأن مقاربة هذا الملف الحساس الذي لا يكفيه عودة النازحين.
فالمشكلة تكمن في كيف تتحقق العودة وبأي شروط ومن ضمن أي ظروف؟!
2 ـ مبادرة حزب الله الى فتح ملف الفساد على مصراعيه والانتقال الى مرحلة الخطوات العملية بتزويد القضاء اللبناني المستندات اللازمة، ولكن ما حصل أن فتح هذا الملف القضائي أدى الى فتح مواجهة سياسية بين حزب الله وتيار المستقبل الذي يتصرف من خلفية أن هناك استهدافا سياسيا له وعملية تطويع جارية تحت عنوان «محاربة الفساد».
وجاءت ردة فعل المستقبل كبيرة في حجمها وحدتها لدرجة أن محاولات حزب الله لاستيعابها عبر تطمينات وتوضيحات لم تنجح.
3 ـ معركة التعيينات الإدارية التي فتحت في موازاة إطلاق «ورشة سيدر»، وهذه المعركة تدرج أيضا في سياق معركة الأحجام السياسية التي كانت سببا في إطالة أمد تشكيل الحكومة، ويمكن أن تكون سببا في تأخير انطلاقتها الفعلية، ذلك أن الانتخابات النيابية أوجدت واقعا جديدا ينسحب أيضا على التعيينات، بحيث لا يمكن أن تمر بهدوء ولا يمكن أن تكون فقط نتاج تفاهمات ثنائية، في وقت انتقلت الطوائف الى مرحلة الثنائيات وكسرت فيها أحادية الزعامة أو قدر الاستئثار.
4 ـ الدخول «الملتبس» من جانب الحكومة الى الملف المالي الاقتصادي وغير المطابق لمواصفات وشروط المرحلة، فإذا كان الهدف المعلن هو الحد من عجز الموازنة وضبط الدين العام، فإن الخطوات والتوجهات في أول جلسة اقتصادية فعلية صبت في عكس هذه الأهداف، وإذا كان المطلوب والمنتظر البدء بسرعة وقوة في ورشة الإصلاحات الموجعة لتحضير أرضية تنفيذ مقررات «سيدر»، فإن ما لمسه الموفد الفرنسي الخاص بيار دوكان لم يكن مشجعا لناحية عدم وجود جدية لدى المسؤولين اللبنانيين، وعدم وضوح الرؤية الاقتصادية، والى درجة الشك بقدرة لبنان على الإيفاء بالتزاماته الإصلاحية.
خلاصة كل هذا الوضع «المتشابك والمربك»، أن الحكومة لا تملك ترف الوقت ورفاهية الانتظار، وتقف أمام امتحان «المئة يوم الأولى» وأمام فترة سماح لا تتجاوز الثلاثة أشهر.
فإذا نجحت في الامتحان ثبتت وأكملت حتى نهاية العهد.. وإذا أخفقت سقطت وكان «السقوط عظيما».