كتب محمد وهبة في صحيفة “الاخبار”:
“قد تكون حسابات منظمات المافيات صحيحة بين نفقاتها وإيراداتها وأرصدتها، لكن هذا لا يثبت شرعيتها”. هذا المثال يقدّمه الوزير السابق شربل نحاس لمقاربة ملف الحسابات المالية. بالنسبة إليه، حتى الآن يجري التعامل مع إنجاز قطوعات الحسابات العائدة لنحو 26 سنة مضت على أنها تكشف عن مكامن الفساد والهدر، فيما هي ليست أكثر من عملية مطابقة محاسبية بين الإيرادات المحصلة والإنفاق الفعلي والرصيد، سواء أكان ديناً أم فائضاً. ضرورة إنجاز قطع الحساب تكمن في أنه شرط للوصول إلى مرحلة التدقيق، حيث يجري التثبت من شرعية الحسابات.
الكلّ يركّز على نتائج قطع الحساب العائدة لأكثر من 26 سنة مضت، باعتباره إنجازاً يكشف الكثير عن وجود اختلالات وأخطاء جوهرية في حسابات الدولة. منها يتفرّع الحديث عن قصّة الـ11 مليار دولار الشهيرة، ومنها يتفرّع الحديث عن هبات مفقودة، وعن قيود متكرّرة وعن سلفات غير مسدّدة… ثمة الكثير من هذه الأمور التي لا تكشف إلا عن جانب بسيط من الحقيقة. قعر الفساد لا يظهر إلا بعد التدقيق بالحسابات والتثبت من كل مستند وفاتورة واعتماد أنفقت من خلاله الحكومات المتعاقبة. قطع الحساب يكشف عن مطابقة بين النفقات والواردات، لكن من يحدّد شرعيتها وسلامتها؟ هذه المهمة ملقاة قانوناً على عاتق ديوان المحاسبة ومجلس النواب، فهل ستحاسب قوى السلطة نفسها؟
يميّز الوزير السابق شربل نحاس قطع الحساب عن التدقيق في الحسابات. مصدر هذا التمييز، أن قطع الحساب عملية مطابقة حسابية لأرقام الواردات والنفقات والأرصدة، فيما التدقيق في الحسابات يتعلق بمطابقة الإنفاق مع المستندات والوثائق والمستندات التي تثبت صحّته وسلامته. المشكلة أن الحديث كلّه يتركّز اليوم على نتائج قطع الحساب، فيما الأهمية الكبرى تكمن في تدقيق الحسابات، وصولاً إلى إصدار الحساب الختامي.
نحاس لا يقلّل من أهمية إنجاز قطع الحساب، لكن المطابقة تظهر الخلل والأخطاء المحاسبية. فعلى سبيل التبسيط، يمكن اعتبار أن حسابات الدولة المختلفة، تشبه حسابات أي شركة صغيرة فيها إنفاق وواردات، فإذا صرفت الشركة مبالغ معينة، تُقيَّد في حساب النفقات، وإذا تقاضت أموالاً تُقيَّد في حساب الإيرادات، وإذا استدانت أو تلقت هبة ما تُقيَّد في الحساب المخصص لها حتى يتساوى الحسابان بعد إضافة رصيد الشركة في الصندوق، سواء كان الصندوق عبارة عن مبالغ نقدية أو مبالغ في حسابات مصرفية. بحصيلة هذه العملية يتكوّن رصيد يكون بمثابة ميزان الدخول لإجراء المطابقة المحاسبية للنفقات والواردات والصندوق في السنة التالية.
يقول نحاس إن هذه العملية قد تنطوي على أخطاء أو خلل، لكنها ليست نتائج يمكن اعتمادها عند قياس أداء الشركة، إذ إن «تدقيق الحسابات قد يكشف الكثير الكثير». ويشير إلى أن «أي شركة أو منظمة أو حتى مافيا، يمكنها أن تقوم بعملية مطابقة محاسبية، لكن هذا لا يعني أن إنفاقها كان قانونياً أو جرى ضمن الأهداف الصحيحة ولا يعطي المسؤولين براءة ذمّة عن أفعالهم. قد يكونون أنفقوا مبالغ كبيرة لا يمكنهم تبريرها، وقد يكونون حصّلوا أموالاً هائلة من دون وجه حق، وبصورة مخالفة للقوانين. هذا الأمر لا يمكن استخلاصه إلا من خلال عملية التدقيق».
الأمر نفسه ينطبق على مسألة الحسابات. فوزارة المال تعدّ الحسابات التي يدقّقها ديوان المحاسبة بالاستناد إلى ما يعرف بـ«حسابات المهمة» التي تتضمن المستندات والوثائق التي تثبت آليات صرف المبالغ وقانونيتها… ثم يصدر الديوان تقريراً بذلك ويرسله إلى مجلس النواب حيث تجري مساءلة الحكومة ومحاسبتها عن أعمالها.
حتى الآن الحديث يتركّز على قطع الحساب ونتائجه. هذا الأمر لا يلغي أصل المشكلة. الأصل أن قوى السلطة التي حكمت لبنان على مدى عقدين ونصف من الزمن، ولا تزال إلى اليوم في مواقعها، هي التي أنفقت المبالغ التي جمعتها من شركات وأفراد، ورتّبت على الخزينة ديناً عاماً بلغ 84 مليار دولار. الجزء الأكبر من إنفاق الخزينة كان على الدين العام. بين عامي 1993 و2017 أنفقت الخزينة أكثر من 216 مليار دولار منها أكثر من 77 مليار دولار خصصت لخدمة الدين العام. الدين العام كان 2٫5 مليار دولار سنة 1992 ثم ارتفع اليوم إلى 84 ملياراً، وهو مرشّح لزيادة بقيمة 42 مليار دولار في نهاية 2023. ولا يجب إغفال الإنفاق التشغيلي أيضاً. سفر، ووفود، واستهلاك محروقات وأثاث… ولا يجب أن ننسى صفقات الأشغال العامة من عقود وصيانة وغيرها، ولا الإنفاق الذي حصل عبر الصناديق… ثمة الكثير من الحسابات التي تحتاج إلى التدقيق والتي بنتيجتها قد يُعَدّ جزءٌ من الدين العام ديناً جائراً تتحمّل مسؤوليته قوى السلطة.
على سبيل المثال، ثمة ما جرى في عام 1993. يومها تكلف مجلس الإنماء والإعمار التعاقد مع شركة «سوكلين» لجمع النفايات وفرزها وطمرها في بيروت وجبل لبنان. وبمعزل عن أسعار التعاقد مع الشركة ومدى عدالتها، إلا أن آلية الإنفاق نصّت على أن يُدفع لهذا المتعهد من أموال الصندوق البلدي المستقل. وهذا الأمر حصل خلافاً لما قاله ديوان المحاسبة في التقرير الخاص رقم 99 الذي عدّ عقود «سوكلين» باطلة بطلاناً مطلقاً، وللرأي الاستشاري رقم 62 الصادر في عام 1999 والذي يشير إلى أن أموال البلديات هي أمان للبلديات وملك لها وليست واردات عامة، وأنها أمانة لجميع البلديات. بالاستناد إلى الديوان، يتبيّن لنحاس أن «كل الدفعات التي سدّدت لشركة سوكلين، بمعزل عن الأسعار وعدالتها، عبارة عن دفعات مؤقتة إذا لم تثبت شرعيتها».
هذه عيّنة بسيطة من الرقابة المطلوبة على حسابات الدولة. في عام 2010 اقترح نحاس بصفته وزيراً في الحكومة، أن يتوقف الإنفاق بالطريقة المعتمدة سابقاً، أي من خلال القاعدة الاثني عشرية، واعتماد الآلية الآتية: يحصل كل وزير على سلفة خزينة ويكون هو القيّم عليها، أي أن يكون مسؤولاً بأمواله الخاصة عن إنفاقها. لكن قوى السلطة سارت على خطى الحكومات المتعاقبة وقرّرت أن تبتدع صيغة جديدة للإنفاق من دون إقرار الموازنة، فأقرّ مجلس الوزراء تغطية النفقات من سلف خزينة تعطى للوزارات، على أن تسجّل في حسابات الإنفاق في الخزينة، ووسّع مجدداً قيمة المبالغ المسموح إنفاقها على أساس القاعدة الاثني عشرية. «كان يمكن أن تقرّ السلف للوزراء وتحميلهم مسؤولية إنفاقها واعتبار أن تطبق عليها الآليات المعتمدة في وزارة المالية – مديرية المحاسبة. حتى من دون وجود موازنة يمكن أن تكون هناك ضوابط وآليات لحصر الإنفاق وعدم توسيعه» وفق نحاس.
هذا يلغي حقيقة أن الخيار الوحيد هو توسيع الإنفاق والجباية من خلال توسيع القاعدة الاثني عشرية. هناك اقتراح آخر. يمكن القيام بتعديل دستوري على فترة زمنية محدّدة بثلاثة أشهر من أجل السماح بالإنفاق حصراً على بنود ضرورية. تسمى هذه المهلة المحدّدة أنها مهلة حثّ يجب أن تدفع المسؤولين إلى إقرار حسابات السنة الماضية وإقرار الموازنة للسنة اللاحقة. هذا العمل يجب ألّا يتوقف.
من قانون المحاسبة العمومية
الطرح الذي يقدّمه نحاس عن الإنفاق ضمن حدود الرقابة والضوابط القانونية يستند إلى مجموعة مواد في قانون المحاسبة العمومية هي:
ــ المادة 12: أصول فتح الاعتمادات: لا تفتح الاعتمادات إلا ضمن نطاق الموازنات المذكورة في المادة 6.
ــ المادة 40: لا يجوز تحصيل أي ضريبة أو رسم ما لم تجز السلطة التشريعية ذلك بموجب قانون الموازنة أو أي قانون آخر. ويلاحق المخالف وفقاً لأحكام المادة 361 من قانون العقوبات. المقصود بتعبير «أي قانون آخر» قانون لسنة أو لجزء من سنة، يجيز الجباية أي قانون موازنة استثنائية أو تكميلية.
ــ المادة 85 : لا يجوز أن يفتح اعتماد استثنائي إلا بقانون خاص.
ــ المادة 108: على كل سلفة قيّم مسؤول عن حسن أدائها على أمواله الخاصة، والقيم على السلفة مسؤول شخصياَ على أمواله الخاصة عن قيمتها. وعليه أن يبرر عند كل طلب وجودها لديه إما نقداً، وإما بأوراق مثبتة لما أنفقه من أصلها.
ــ المادة 104: المهلة القصوى لتقديم الأوراق المثبتة لتسديد السلفة نهائياً لا يتجاوز 31 كانون الثاني من السنة التالية على أبعد حد.
ــ المادة 112: الوزير مسؤول شخصياً على أمواله الخاصة عن كل نفقة يعقدها متجاوزاً الاعتمادات المفتوحة لوزارته.